عندما قرأت الخبر التالي: «في الأسبوع الماضي، انطلقت فعاليات المؤتمر السنوي الأول لمؤسسة «تكوين» في المتحف المصري الكبير،
بمشاركة مجموعة كبيرة من المفكرين والأكاديميين من دول عربية مختلفة» لم تكن عندي أي فكرة عنه، فتصورت أن العقل المثقفي العربي بدأ يستيقظ،
وكأن الحدث الأكبر «طوفان الأقصى» وراء هذه «اليقظة». إن الأحداث الكبرى تدفع إلى البحث، وإلى نقد الذات، وإعادة النظر في كل المسلمات،
وتحفز على تجديد الـ»نظارات» ولاسيما بعد طول أمد العشى الإيديولوجي، إن لم أقل عمى الأهواء المرضية.
ومع الاطلاع على «جديد» التكوين، بدا لي أننا أمام رحى تطحن القرون. كنت قد توهمت، قبل تكوين فكرة عن التكوين، أن بعض الكتاب ـ المثقفين العرب سبقوا طلاب الجامعات المصنفة عالميا إلى التعبير عن رفضهم الصارم لإبادة شعب،
وأنهم جهزوا خيامهم للوقوف ضد الأنظمة التي وقفت تتأمل المشهد، أو للتصدي لمزاعم الديمقراطية، والحداثة، وحقوق الإنسان،
وكل الشعارات التنويرية التي أخنى عليها الدهر، والتي عرت ممارسات الصهيونية والديمقراطية الغربية كل سوآتها، وكشفت بالملموس أن كل ما ظل يطرح عن الحوار والتسامح، ونبذ العنف، واللائحة طويلة ليست سوى أقانيم للتضليل وفرض التبعية،
والوقوف ضد أي نزوع ينادي بالاختلاف عن الغرب وتاريخه الاستعماري والإبادي للشعوب، وللثقافات المختلفة.
وجدتني، بعد زيارة موقع التكوين، صراحة أقرأ في ديباجة من نحن؟ إنشاءات لا علاقة لها بالعقل، ولا بالفكر النقدي، ولا بالسؤال الإبستيمولوجي.
كما أنني وجدت في المقالات السجالية التي دبجها «كتاب ـ باحثون» أو من أرشيف بعض الكتابات «التنويرية» تكرارا لما قيل منذ أزمنة طويلة عن الأنا والآخر، والأصالة والحداثة، والتأصيل والتنوير، وكل الجمل المرصفة والطنانة، والتي لا جديد فيها سوى إنشاءاتها.
كنت أفكر بعد خروج طلاب الجامعات الأجنبية في كتابة مقالة عن المثقفين العرب، وليس عن طلابنا، ودورهم في هذا الحدث الأكبر، الذي بدأ يطرح أسئلة جديدة، مع الطلاب المعتصمين،
عن أساطير ما بعد الحرب الثانية، ولعل أكثرها أهمية «اللاسامية» التي ظلت من «المقدسات» التي لا يقربها العلمانيون، ولا يطرحها العقلانيون،
ولا يسمح بالإعلان عنها التنويريون، عربا كانوا أم أجانب. كنت أود التفكير في هذه الأسئلة: ما الذي جعل هؤلاء الطلاب الأمريكيين يقولون: لا لإبادة الشعب الفلسطيني،
ويطالبون بعدم التعامل مع إسرائيل، وقطع الاستثمارات عنها، مما عرَّضهم لآلة القمع والتسلط؟ ما الذي أدى بهؤلاء الطلاب إلى مراجعة أسطورة اللاسامية، التي عمل الغرب،
وأمريكا وإسرائيل بمقتضاها على التمييز بين «الإنسان العاقل» و«الحيوانات البشرية» وهم الذين تربوا على هذه المقدسات؟
لم يتكوَّن تكوين سِفر العهد المعاصر لطرح أسئلة جديدة وعميقة ومقلقة ومتوترة، وليدفع في اتجاه التفكير وطرح الأسئلة الحارقة والمحرجة، لكن لكي يعيد أسئلة قديمة في عالم متجدد، وليتحدث لنا الحوار والتسامح ونبذ العنف، وتجديد الدين،
وكأن الحرب الأولى والثانية والنكبة والنكسة وتمزيق العراق، وتشتيت الشام، ونشر الطائفية، وتغذية الصراع العربي ـ العربي، والحروب الأهلية، ونهب الثروات،
والفساد بكل أنواعه، وكل كوارث العالم المعاصر، بما فيها الاحتباس الحراري، والتهجير القسري، وأزمة البطالة، سببها هو الدين الإسلامي الذي هو نقيض العقل،
وأن العقل الغربي مرتع التعايش بين الشعوب، وموئل مساعدة الدول الفقيرة على الخروج من أزماتها البنيوية؟ عن أي عقل يتحدث هؤلاء؟ وعن أي دين؟ وطوفان الأقصى أعطى دروسا قاسية لكل متبجح بالنموذج العقلاني والعلماني اليهودي ـ المسيحي.
إن ما استخلصته من زيارة موقع تكوين، وما نشر فيه من مقالات، أنه ما يزال يدور في فلك الأصالة والحداثة، ويطرح أن المشكل الحقيقي أننا لم ندخل الحداثة لأننا لم نتجاوز التراث؟ هذا التصور ابتدأ في عصر النهضة. فلماذا لم تتحقق الحداثة المنشودة رغم قرنين من الزمن؟
إذا كان التنويري يرى «نموذج» المجتمع العربي المنشود في اتباع «الحداثة» الغربية، فلماذا يرفض أن يجد لدى غيره «نموذجـ»ـه في «الأصالة»؟
ما الفرق بين النموذجين، وبين التصورين، أليسا معا في هوة واحدة، تتمثل في أن صورة المجتمع الذي نريد كامنة هناك أو هنا، ولسنا سوى «وسطاء» لفرض هذا النموذج أو ذاك؟ يسمى «العقل» عند هؤلاء بأنه منفتح،
وعند غيرهم منغلق. فما الفرق بين الانغلاق والانفتاح، والباب الذي يراد إغلاقه أو فتحه غير موجود إلا في المتخيل المثقفي؟ إذا لم يكن العقل العربي قادرا على الإبداع سيظل متكئا على الأبواب المفتوحة أو الموصدة،
لأنه لا يستطيع صناعة الباب الواقعي الذي يكون متلائما مع مشاكله وقضاياه التي يفرضها عليه العصر، والذي عليه أن يكون فيه قادرا على المنافسة،
وليس على أن يكون ظلا لأي آخر سواء كان في الماضي أو الحاضر.
ما الفرق بين الشيخ والمثقف؟ إنهما معا وليدا ذهنية واحدة لا تتقوت إلا من السجال، وهي تتكئ على النموذج الجاهز.
إنها ذهنية كسولة، وإن تحدثت عن «التجديد» وذهنية جامدة، وإن دافعت عن «العقل». السؤال أول العلم. مشكلة العقل العربي، بإيجاز بليغ، أنه يمتلك الجواب، ولهذا لا يطرح السؤال.