أولا: سؤال وانتظار
حين طرحت السؤال على ذاك النحو، هذا الصباح، كنت أنتظر تعليقا أو أكثر على صيغة السؤال ، كأن يقول أحدهم: إن الغنوشي محبوسٌ وليس مسجونا، نظرا لاختلاف مفهوم الحبس عن مفهوم السجن.
ثانيا: في الحبس والسجن
– الحبس له مفهوم مادي بما هو مكان وبما هو فعل، فحبس الفرد بمعنى تحديد حركته وتحديد مساحة كيانه ومنعه من فعل ما يريد، والحبس عادة يكون في مكان يُعزل فيه المحبوس عن عالم الناس وحتى عن عالم الطبيعة.
أما “السجن” فهو متعلق – غالبا- بالأفكار والعواطف والمعاني، وهذا لا يقدر عليه أي سلطان مهما أوتيَ من وسائل البطش والعسف، فالأفكار والعواطف والمعتقدات لا يمكن لا سَجنُها ولا قتلها فهي عصية على الضبط والكشف والتحكم إلا أن يتنازل عنها أصحابها ضمن مراجعات أو نتيجة يأس.
إن كثيرا من المحبوسين جسديا ، هم أحرارٌ يشعرون براحة نفسية ويجدون في أعماقهم اطمئنانا وسكينة وأملا عظيما، وهم، رغم تقييد أجسادهم، لا يفقدون الثقة في قناعتهم ولا يتنازلون عن كبريائهم ولا يطالهم يأس ولا حزن.
وثمة كثيرون آخرون ، هم مُطلَقُو الأيدي والأرجل، ولكنهم مقيّدون، يُقعِدهم العجزُ والكسل والخوف، وهم سجناء، لا يغادرون سجن ذواتهم المهزومة والحاقدة والحزينة واليائسة.
ثالثا: ماذا لو كان الغنوشي خارج الحبس؟
أعتقد أن الغنوشي المحبوس جسدا، ليس سجينا، لانه ممتلئ بذاته لا يمكن أن تنكسر إرادتُه ولا أن تنهار معنوياته وقد خبرته المحنُ وقد خاض معاركه الطويلة بنفس أطول.
يخطئ ويصيب يضعف ويقوى ككل البشر، ولكنه ككل القادة والزعماء الكبار لا يعلن استسلاما ، رغم ما يُبديه دائما من تنازلات وتوافقات من أجل مصلحة الجميع.
لا أخفي علاقتي المتينة بالرجل ، علاقة خارج الأطر الحزبية، وإنما هي وشيجة إنسانية قوية وضمن تفاعل فكري حيوي متحرك، وانا أعلم ما يكنّه لي من تقدير ومحبة وما أحظى به لديه من ثقة مطلقة، ورغم ذلك لم أتأثّر ولو قليلا حين وقعت مداهمة بيته في “لحظة” لها أكثر من دلالة، وحين اقتيد الى “الحبس”.
لماذا لم أتأثر؟
لأن عملية “حبس” ، الرجل، بعين الرُّؤيَوي، إنما كانت عملية “إنقاذ” له، وربما كان هو نفسه ينتظرها ، بمعنى كان يودّ أن يحصل له ذلك، إذ لم يعد له ما يُقدّم .
وقد سجل موقفه أمام دبابة تسد باب البرلمان فجر 26 جويلية 2021، وذاك سقف اللحظة الخاطفة التي لا تتكرر ولن ينافسه فيها أحد.
لحظة هي أشبه ما تكون ب”رصيد” مُدّخَرٍ لمستقبل قريب أو بعيد سيصرف منه بقدر حاجته ، او بما يزيد عنها إن شاء، للرد على كل من قد يزايد عليه.
لقد مكّن قيس سعيد الغنوشي من “الفوز” بتلك “اللحظة” حين قام ب”تهريبه” و”إخفائه” في مكان “آمن” حتى لا يضيع منه ذاك “الكنز”، كنز يُؤنسه في حبسه ويمدّه بالأمل والاطمئنان وهدوء النفس.
لو بقي الغنوشي خارج السجن، ومكتبه بمونبليزير مغلقا، وبيته تحت رقابة دائمة، ماذا كان يمكنه أن يفعل؟ هل كان متاحا له عقد اجتماعات سياسية بمناضلي حركته؟ هل كان سيخرج في مسيرات شعبية ؟ هل كان سيخطب أمام المسرح البلدي ؟ هل كان سيلازم بيته ويكتب مذكراته؟ هل كان سيعلن فشل التونسيين في اختبار التدرّب الديمقراطي، وفشل كل حكومات ما بعد 2011 في تحقيق انتظارات التونسيين ؟.
كل هذه الاحتمالات لم تكن ممكنة ، وهو ما يعني أن الرجل كان سيفقد كل علامات “الحياة السياسية” ولن يكون قادرا على فرملة “جرافة” 25 /07/2021.
رسالة قيس سعيد، وهي رسالة الدولة، ليلة “الواقعة”، كانت واضحة وحاسمة كما “الرصاصة”، حين قال “أن كل رصاصة ستُواجَه بوابل من الرصاص لا حدّ له”، وقد فهم الغنوشي أن إطالة “المرابطة” أمام البرلمان قد تفتح على مشهد “رابعة” المصرية.
لقد تم “تهريب” الغنوشي ب”كنزه” إلى محبَسه، ولم يتم سَجنه، وإنما يحزن على الغياب الصغار.
مازلت اعتقد أن الله يحب تونس، وأن اكثر شعب يحبه الله هو الشعب التونسي، إنه الشعب الذي إذا سكرَ سِكِّيرُوه حمدوا الله كثيرا وأقسموا بأن ما يعصون به ربهم إنما هو من نعمه التي لا تُحصَى.