ثقافة وفنونمصر

رواية بريد الشمس.. رسائل متمردة لن تجد مرسل إليه “رؤية نقدية لـ رابعة الختام”

لم يكن يعلم الفلاح المصري الفصيح “خنوم حتب” وهو يكتب رسائله قبل الميلاد بحوالي 2200 عام للملك “نب كاو رع” أن أدب الرسائل سيصير نهجاً يدرس في المدارس الإبداعية.
وفي عام 1912 كتبت الأمريكية “جين وبيستر” روايتها صاحب الظل الطويل كرواية أدب رسائل.
هذا المسلك الإبداعي الذي سارت عليه الكاتبة الطبيبة صفا عزت صيام فهي تكتب الرواية والقصة في منحى فانتازي رومانتيكي النزعة في غالبية أبنيته الجمالية.
نشرت في عدد من الدوريات المصرية والعربية وبعض المواقع الإليكترونية، حاصلة على بكالوريوس صيدلة جامعة الإسكندرية2008. ماجستير الأحياء الدقيقة الجزيئية والتشخيصية معهد البحوث الطبية جامعة الإسكندرية 2014.
صدرت روايتها “بريد الشمس” عن مركز إنسان للدراسات والإستشارات والتدريب والطباعة والنشر يناير 2022م، تقع في 192 صفحة من القطع المتوسط.
دون أن تعرف أنها فعلت هذا ألقت “صفا صيام” الرعب في قلبي بروايتها بريد الشمس الصادرة حديثاً، والفائزة بجائزة الأديب مصطفى بيومي للرواية عام 2021 ذلك الرعب الذي يخشاه الأباء والأمهات من إنزلاق أبنائهم في براثن الشيطان أو الإنجراف في طريق أصدقاء السوء.
ففي روايتها الأولى صنعت نصاً إبداعياً يتدفق شجناً ويقطر حسرات ولوعة تتدثر بالمرارة، بلا فذلكة كاذبة وأفكار معقدة تسحب القارئ لسراديب مظلمة، قدمت ذلك السهل الممتنع والممتع في آن واحد.
مارست التوظيف السردي للرعب في روايتها بريد الشمس، ثمة خوف يسكن السطور، خوف لم تكتبه لكنه حاضر بذكر خيبات شخوص الرواية، فمع كل هاوية لا يستطيع أحدهم تفاديها يتملك القارئ وجعاً ما، خوف من مجهول متربص.


بمقدمة روايتها “بريد الشمس” تصف الدكتورة صفا عزت صيام تلك الآلام المبرحة التي يعانيها المتعافين من جرعات المخدرات بصورة تبعث على النفور والرفض التام لخوض هذه التجارب القاتلة والوقوع تحت وطأة هذا السم الناقع.
تبدأ بأول رسالة لـ”مالك” شاب يتلقى علاجاً بمركز العين السخنة لعلاج الإدمان، حيث يكتب:
إلى شمس، هل سمعت صوت إغلاق باب هذه الغرفة البغيضة؟
إنه أول يوم لي في هذا السجن يا شمس، غرفة لعينة، سحب منها الهواء
شباكها محاط بأسيجة حديدية ترين من بينها براح حديقة خضراء وكأنك عصفور في قفصه الغبي.
تعاطفت اليوم لأول مرة مع العصافير المسكينة يجعلونها ترى جمال الكون من خلف قضبانها عاجزة عن الفرار.. مشهد يشبه فيما يشبه الكوميديا السوداء.
رغم أن الرواية بها بطل وحيد هو الشاب مالك، وبعض شخصيات نادرة متناثرة في ثنايا الحكي وقد لا تمثل قيمة مضافة للأحداث إلا بالقدر الذي يحركها قليلاً ويلقي بحجر صغير في مياه السرد، إلا أن الكاتبة أفلتت من فخ الملل برسائل قصيرة في مواعيد محددة تحكي تفاصيل إنسانية شديدة العذوبة والدفء، فأشركت القارئ في الإنتظار حتى يحين موعد الرسالة التالية، لتحمل تفاصيل جديدة ومعاني إنسانية في رحلة تعافي ومحاولة إعادة الاندماج في الحياة من جديد، ومشروع المكتبة التي أقامه طبيبه الخاص بالمصحة لتكون دافعا له ولرفقائه للتثقيف والخروج من العزلة المجتمعية.
تتماوج الرسائل بين اللوعة والألم ومشاعر الفقد وبين العزوبة والرقة حين يكتب لأمه.
تعود الكاتبة لتتسائل على لسان بطلها “هل يتعافى عصفور سجين”
أشعر ببركان بداخلي يا شمس لا أكاد أحتمل.
جسدي يحترق… نار تسري بأوردتي…
أعذريني سأنهي الرسالة الأن… لا أستطيع الكتابة أكثر…
وبرسالة أخرى يقول: إليك يا شمس…
يا إلهي! الشمس… يا لها من مخلوق، أين هي الشمس بحق، لماذا لم أعد أشعر بوجودها، لقد حل الظلام.
رسائل عديدة يكتبها في رحلة علاجه دون تلقي أي رسائل مشابهة أو ردود من شمسه هذه التي يكتب لها يومياته واصفاً عذاباته المتلاحقة، نكتشف بنهاية الرواية أنها حبيبته التي ماتت في حادث مفاجئ يوم قرر إعترافه لها بالحب، حتى أن الخاتم الذهبي الذي كان من المقرر أن يهديها إياه ظل بيده مع باقة الزهور التي عوضاً أن تكون رسول الحب إليها وضعها على قبرها وبكي!
سبعون رسالة بدأها ليلة الخميس الحادي والعشرون من يناير إلى الأول من شهر إبريل، عنونها بتوقيعات متباينة (مالك الممزق، مالك الباحث عن ذاته، الفيلسوف، الجائع جداً، المتعاطف، المحترق في لهيب الشمس، الناجي الوحيد لحسن الحظ، المخلص دوماً، المحب دائماً، البائس، الحزين، الأب الروحي، أمين المكتبة، مالك الإنسان، المحب، النادم، المشتاق) كل توقيع يمثل مؤشر لخط سير مشروع علاجه.
إستخدمت الكاتبة المقارنة والتوظيف للشمس الحقيقية كنجم وهاج يضئ الأرض ويسكن كبد السماء، وشمس إسم محبوبته، إلى جانب تسميته للشجرة الوارفة والتي تسكن مدخل المركز الطبي بالشمس جعلت من السرد لعبة تتسلى بها الكاتبة لتلعب مع قارئها وتلاعبه وتتلاعب به فتخلق رغم كآبة الحدث والآلام الشديدة التي يعانيها البطل، تخلق جواً من التشويق الماتع فتسرق قارئ ملول من ألاعيب السرد وتقنياته الكلاسيكية إلى رحابة التجريب فتخرج بنص فارق حصد جائزة كونه أسال حبراً جديداً متمرداً على قوالب حكي فقدت بعضاً من مرونتها المعتادة.
عبر نص مراوغ نجد الحكاية تنتصر للإنسان والرغبة في الحياة والإستمتاع بها من جديد، رغم مشاعر الفقد والوحدة والتوحد مع المكان ومحاولة نيل الونس من رسائل لا مستلم لها، وكاتب يعلم أنه لن يحظى بمرسل إليه مهما طال الزمن.
فهذا الشاب البائس “مالك” يروي بعض شذرات من حكايات رفقاء رحلة العلاج والتعافي وكيف وقعوا في شرك الإدمان رغم تعدد أسباب وتباين البيئات والخلفيات الثقافية والإجتماعية.
وعبر صورة واهنة لأب ضعيف يقتل طموح الأم التي رغم أنها أطلت برأسها على السرد مرتين فقط أحداهما حين زارته بمصحة العلاج، والثانية عندما أرسلت له صورة كبيرة رسمتها كلوحة زيتية لحبيبته الراحلة شمس، إلا أن الأم ظلت مسيطرة بحضورها فيما بين السطور.
شرحت لنا الكاتبة صورة باهتة لأب متسلط وقاسٍ، في مواجهة صور أخرى لأباء حقيقين ينال أبنائهم دعمهم دائماً، وكيف تكون ثمة صورة ساطعة لأباء داعمين لا يتصيدون الأخطاء ولكنهم يسدون الفجوات بمحبة وطيبة وأبوية منزوعة التسلط والجبروت.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى