تقارير

تجميد علاقات تركيا التجارية مع “إسرائيل”: الدوافع والنتائج والبدائل

المقدمة:

انشغلت الأوساط “الإسرائيلية” بالقرار التركي القاضي بتجميد العلاقات التجارية المتبادلة، بالتزامن مع استمرار العدوان الجاري على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة منذ أكتوبر 2023، بانتظار تحقيق وقف دائم لإطلاق النار، وضمان تدفق المساعدات الإنسانية ووصولها إلى سكان القطاع دون عوائق، علمًا أن تركيا نفسها لم تعلن عن مقاطعة دائمة طويلة الأمد مع “إسرائيل”، بل تنتظر فقط نهاية الوضع الإنساني المأساوي في غزة، ما يعني أنّ المقاطعة ليست مطلقة في كل المجالات، وبالرغم من أنّ القرار التركي جاء “متأخراً” بعد سبعة أشهر من العدوان على غزة، لكن ردود الفعل “الإسرائيلية” الغاضبة، والتهديد بإصدار سلسلة “عقوبات” تجاه تركيا، وحجم الخسائر “الإسرائيلية” المتوقعة منه، يدفع إلى محاولة استقراء المواقف من القرار، واستشراف تبعاته الاقتصادية، وإمكانية أن تعثر “إسرائيل” على بدائل تجارية لتركيا، التي تعدّ حالياً أحد أكبر شركائها التجاريين.

أعلن وزير التجارة التركي عمر بولات في الثالث من مايو خلال لقائه مع مجموعة من المصدرين الأتراك عن قرار تجميد المبادلات التجارية مع “إسرائيل”، وحصر تصدير المنتجات إليها في 54 فئة، بما في ذلك مواد البناء المصنوعة من الحديد والفولاذ، والأصباغ، وأسلاك الفايبر الضوئية، والمركبات الكيميائية والأسمدة، ووقود الطيران، ويأتي قرار أنقرة رغم احتلال معاملاتها التجارية حصّة الأسد مع “إسرائيل”، حيث بلغ حجمها 6.8 مليار دولار عام 2023، 76% منها صادرات تركية ل”إسرائيل”، فيما انخفضت الصادرات التركية لإسرائيل في ذات العام إلى 4.6 مليار دولار، وكانت بلغت 5.7 مليار دولار عام 2022، الأمر الذي يجعل تركيا واحدة من أهم خمس دول تعتبر مصدراً للواردات لإسرائيل، وهي الصين والولايات المتحدة وألمانيا وسويسرا.

كشفت بيانات اتحاد الغرف التجارية في “إسرائيل” أنّ وارداتها من تركيا شملت مزيجاً من: الصناعات المعدنية 27%، الآلات والمعدات الكهربائية 13%، البلاستيك والمطاط 9%، الحجر والجص والزجاج والإسمنت 8%، أدوات وقطع غيار السيارات 7%، مواد خام 5%، وقد احتلت “إسرائيل” المركز الـ13 في قائمة الدول الأكثر استيرادًا للمنتجات التركية خلال عام 2023، بنسبة 2.1% من مجموع الصادرات التركية، حسب بيانات هيئة الإحصاء التركية، لكن التجارة بين أنقرة و”تل أبيب” انخفضت بنسبة تزيد على 50% منذ السابع من أكتوبر 2023 حين اندلع العدوان “الإسرائيلي” على غزة، وشهدت الصادرات التركية إلى “إسرائيل” انخفاضًا من 489 مليون دولار في أكتوبر 2022 إلى 348 مليونًا في أكتوبر 2023، كما تراجعت الواردات التركية من “إسرائيل” خلال الفترة ذاتها من 241 مليونًا إلى 99 مليونًا، وانخفض التبادل التجاري بينهما بقيمة 1.3 مليار دولار، بتراجع نسبته 45% مقارنة بالعام 2022.

تكشف هذه الأرقام اللافتة أنّ الحظر التركي الجديد على تصدير منتجات معينة ل”إسرائيل” يشكل علامة فارقة أخرى في دوامة تراجع علاقاتهما التجارية، سبقه رفع وزارة الخارجية التركية نهاية يناير 2024 “إسرائيل” من قائمة الدول المفضلة لصادراتها، مما يزيد من حصول علاقاتهما على مزيد من المؤشرات السلبية، بعد أن نشأت بينهما بنية تحتية تجارية شاملة تشمل اتفاقيات التعاون الاقتصادي، وأهمها: التجارة الحرة، حماية الاستثمار، منع الازدواج الضريبي، التعاون في مجال الأبحاث.

تزامنت خطوة تركيا مع قرار كولومبيا وبوليفيا، اللتين قطعتا العلاقات مع “تل أبيب”، مما يعزز النظرة العالمية لها باعتبارها “منبوذة”، وغير مرغوب بها، وهو أمر مزعج لها، وقد يتحول إلى اتجاه عالمي يستفيد منه قادة ودول معادون لها، وبالتالي فإنّ القرار التركي سيفاقم من تدهور صورة “إسرائيل” التي وصلت لأدنى مستوياتها في الأشهر الأخيرة، وسيدفع الشركات العالمية العاملة في التجارة الخارجية إلى إقرار حقيقة مفادها صعوبة العمل مع عميل متقلّب غير مستقرّ مثل “إسرائيل”.

انطلقت المواقف “الإسرائيلية” الغاضبة من قرار تركيا كونها مصدرًا للعديد من المنتجات الاستهلاكية بأسعار تسمح بتكلفة معيشة مقبولة في “إسرائيل”، مثل الحلويات والمعلبات والخضروات والفواكه، والمنتجات المنزلية والكهربائية والبناء والإسمنت والأسماك الطازجة والمركبات، في المقابل، يُتوقع أن يشمل القرار التركي الواردات “الإسرائيلية” في عشرات المجالات: الحديد والألومنيوم والإسمنت بكميات كبيرة، والزجاج والآلات والرافعات والبلاستيك والمطاط ومنتجات الختم والأنابيب، ومجموعة من ملحقات الشقق، والكثير من المنتجات الزراعية والمعادن والأحجار والمعادن الثمينة والماس، والمنتجات الكهربائية مثل الآلات والغسالات والمجففات.

أولًا: ردود الفعل السياسية، تركزت على رفض القرار التركي، واتهام أنقرة بانتهاك الاتفاقيات التجارية، والزعم بأنّ الاقتصاد التركي سيتضرّر أكثر بكثير من نظيره “الإسرائيلي” بسبب الميزان التجاري بينهما، وتقديم شكوى ضد تركيا لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، وتخويف الدول الأوروبية بزعم أنها لن تتمكن من إرسال البضائع من المصانع في تركيا ل”إسرائيل”، والطلب منها اتخاذ إجراءات ضدها، ووضع قيود عليها.

في الوقت ذاته، اعترفت المحافل السياسية “الإسرائيلية” أنها أمام خطوة تركية حادة كاسحة للغاية لوقف التعاملات التجارية، وستترك تأثيراتها على آلاف العائلات “الإسرائيلية”، فالبضائع ما زالت عالقة في الموانئ، مما يعني خسارة اقتصادية مع خامس أهم شريك تجاري، في ظل غياب “حزام الحماية” الذي لم تطبقه الحكومة لصالح قطاع الأعمال والتجارة، وتخوف بأن لا يتوقف الأمر عند هذا الحدّ، مع إمكانية الإقدام على خطوة تالية تتمثل بقطع العلاقات السياسية.

أجمعت الأوساط الاقتصادية والتجارية “الإسرائيلية” على أنها تلقّت الأخبار الصعبة بالإعلان التركي، بالتزامن مع ما تعانيه الأسواق “الإسرائيلية” من حالة يرثى لها منذ بداية حرب غزة بسبب نقص القوى العاملة والمواد الخام، وسط عجز عن كيفية التعامل مع ارتفاع الأسعار المتوقع نتيجة للقرار التركي، والتخوف من انهيار بعضها، والطلب من وزارتي المالية والاقتصاد الردّ على تهديدات تركيا، من خلال فرض رسوم جمركية حمائية ضدها، وفرض تعريفات وقائية بنسبة 100٪ لثلاث سنوات على جميع وارداتها، تمهيدًا لحظرها تمامًا من هناك.

تحدث أعضاء الغرف التجارية عن خطط غير واضحة بعد لتحديد وجهات استيراد جديدة، على أمل أن تمر الأزمة قريبًا، ويعودون لممارسة الأعمال التجارية مع شركائهم في تركيا، مع بقاء التخوف من انتقال  تبعات الأزمة فورًا إلى جيوب المستهلكين بسبب الارتفاع المتوقع للأسعار، فصحيح أنّ العمل جاري للعثور على بدائل عن البضائع التركية من بلدان أُخرى، مثل بولندا واليونان، لكن فرق السعر سينتقل في النهاية إلى المستهلك، وقيمة الزيادة قد تصل إلى 15 بالمئة على الأقل.

كشفت الأوساط الاقتصادية في الوقت ذاته عن البدء بإجراءات بشكل عاجل لمساعدة المستوردين المتأثرين من الأزمة مع تركيا، حيث باتوا يواجهون صعوبات، ويطلبون المساعدة من الحكومة، ومن بين الخيارات المتاحة هو نقل الحاويات من تركيا إلى بلد آخر، وإيجاد أسواق استيراد جديدة، وإيجاد بدائل توريدية من خلال مستوردين آخرين في حال عدم استلام المستورد الأصلي للبضاعة، وإمكانية الإعفاء الجمركي.

لم تتوقف الشركات التجارية عن اتهام الحكومات المتعاقبة بسبب اعتمادها التجاري على تركيا، وعدم فعلها أي شيء لإيجاد بديل، والنتيجة أنّ صناعات البناء تعاني عدم قدرتها على العثور على مصادر للمواد الخام من دول أخرى منذ بداية حرب غزة، لأنها لم تفهم التبعات الاقتصادية المصيرية، واليوم سيصبح مؤشر مدخلات البناء أكثر تكلفة، لأنّ القرار التركي أثبت مرة أخرى خطورة عدم اعتماد “إسرائيل” على الصناعات المحلية قبل الاعتماد على المنتجات الأجنبية، لأنه إذا كانت اليوم تركيا، فمن سيكون غدًا؟

يزداد الموقف خطورة مع تأكيد الاقتصاديين “الإسرائيليين” أنّ تركيا كانت حتى الآن مصدرًا للعديد من المنتجات بأسعار معقولة ل”إسرائيل”، ولكن قد يتفاقم الأمر أكثر مع منع مرور السفن عبر مضيق البوسفور والدردنيل، أو حظر الطيران “الإسرائيلي” فوق سمائها، ولذلك ستكون مشكلة في الواردات والصادرات معها، وسيكون لقرارها تبعات بعيدة المدى.

يتضح من هذه المواقف “الإسرائيلية” أنّ المقاطعة الاقتصادية التركية لم تفاجئ الكثير من رجال الأعمال “الإسرائيليين”، لكن حكومتهم، وللمفارقة، لم تستعد لذلك، ما يعني أن تؤدي الأضرار الناجمة عنها إلى إلحاق ضرر كبير بالاقتصاد والمستهلكين، على الأقل على المدى القريب، وفسح المجال لطرح جملة تساؤلات عما ستشمله المقاطعة، ومن سيدفع ثمنها، وكم، وأين سيتم العثور على بدائل للواردات الكبيرة من تركيا، الدولة المتوسطية القريبة جغرافياً.

لا يتردد الاقتصاديون “الإسرائيليون” في مهاجمة حكومتهم التي تتعامل بتلكّؤ مع الحظر التركي، فبدلًا من تعويضهم، فإنها تلحق المزيد من الضرر بهم، رغم أنّ هذا الحظر قد يصل إلى حدّ وقف التجارة البينية، وبالتالي ارتفاع الأسعار، ونقص مجموعة واسعة من المنتجات، مما سيجبر “الإسرائيليين” على دفع الثمن مرة أخرى، لأنّ الحكومة لم تستطع تشخيص ما يمكن تسميته بـ”تسونامي” اقتصادي قادم باتجاهها، ولا الاستماع لدعوات نزع الشرعية عنها، الذي بدأ يلوح في الأفق منذ اندلاع حرب غزة.

لم تتوقف المحافل الاقتصادية “الإسرائيلية” عن توجيه انتقادات للحكومة، لاسيما وزارات المالية والاقتصاد والنقل، لأنها لم تتحضّر جيداً للردّ على القرار التركي، وظهرت الدولة على أنها تشهد حالة من “الابتزاز” بسبب عدوانها على غزة، وبقيت متجاهلة للخطوة التركية المتوقعة لعدة أسابيع، ولم تأخذ بالحسبان أنه سيتم بالفعل فرض مقاطعة كاملة على التجارة البينية، ولم تستوعب الضرر الهائل الذي سيلحق بالاقتصاد “الإسرائيلي” بسبب توقف الواردات من تركيا، رغم التحذيرات الصريحة والمتكررة في الأسابيع الأخيرة من قِبَل رؤساء الجمعيات الاقتصادية والصناعية والتجارية.

بالرغم من أنّ الأزمات الدبلوماسية التي تعيشها “إسرائيل” منذ بدء عدوانها على غزة عديدة ومتراكمة، إلّا أنّ المقاطعة التجارية التركية تبدو الأكثر إشكالية، ولديها القدرة على أن تكون الحدث ذو التأثير الأكبر على “إسرائيل” ومواطنيها، ورغم ذلك فقد طغت السياسات الحزبية داخل الحكومة “الإسرائيلية” على التعامل معها بطريقة عجيبة لا ترقى إلى خطورتها، حيث يعمل وزيرا الاقتصاد “نير بركات” والخارجية “يسرائيل كاتس” بشكل منفصل، ويحاول كل منهما الظهور وكأنه يدير أزمة العلاقات مع تركيا بمعزل عن الآخر، ويكتفيان بشنّ هجمات إعلامية وتصريحات ضد تركيا ورئيسها، هذا الأسلوب في التعامل مع أزمة حقيقية كهذه يعني أنّ منتديين وزاريين مختلفين انعقدا عندما دخلت المقاطعة التركية حيز التنفيذ، وبات لكل منهما استراتيجية مختلفة فيما يتعلق بإدارة الأزمة، مما سيؤدي بدوره لسياسة “إسرائيلية” غير واضحة وغير متوازنة في الوقت الحالي، ويعني أنّ الحكومة لم تفهم بعد خطورة الحدث التركي بشكل كامل، ولا يفهم وزراؤها أنّ وراء الخطاب السياسي التركي تأثيرات حقيقية على اقتصادها ومواطنيها، والنتيجة أنّ اشتداد الضغوط الدولية يتزامن مع سياسة الحكومة التي تقود الدولة إلى منحدر زلق.

استنفرت “إسرائيل” طواقمها الدبلوماسية والاقتصادية فور صدور القرار التركي، واجتمع ما يسمى “فريق تركيا” التابع لوزارة الخارجية بهدف الرد على قرارها عبر الخطوات التالية:

  1. اللجوء إلى المنتديات الاقتصادية الدولية للنظر بفرض عقوبات عليها، خاصة منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، ومنظمة التجارة العالمية (WTO)، رغم أنهما ستمتنعان عن اتخاذ أي خطوات تجاه تركيا، سواء إصدار مذكرات إدانة ضدها من الناحية النظرية، أو السعي لإخراجها من صفوف المنظمات.
  2. الاتصال بالمحافل الدولية لدراسة إمكانية فرض عقوبات على تركيا، بزعم انتهاكها قوانين التجارة الدولية، والحديث مع الدول والمنظمات في الولايات المتحدة لوقف الاستثمارات فيها، ومنع استيراد المنتجات منها، ومخاطبة الكونغرس لدراسة انتهاك قوانين المقاطعة، وفرض عقوبات عليها، مع أنّ الخطوة التركية لا تنتهك اتفاقية منطقة التجارة الحرة بينهما لعام 1996، لأنها تنص صراحة على أنه “يجوز لكل طرف إنهاء الاتفاقية بإشعار كتابي للطرف الآخر عبر القنوات الدبلوماسية”.
  3. تقليص علاقات تركيا الاقتصادية مع السلطة الفلسطينية، لأنها أكبر دولة مصدرة لها، ويبلغ إجمالي وارداتها 18%، ولأنّ “إسرائيل” تسيطر على المعابر الفلسطينية، فإنه يمكنها منع دخول البضائع التركية هناك، لكن ليس من المؤكد أنه إجراء ناجح، فهي خطوة لها آثار سياسية واقتصادية واسعة النطاق تتطلب موافقة الجهات الأمنية والعسكرية “الإسرائيلية”، وهو أمر مستبعد، لأنها ستزيد من تدهور الاقتصاد الفلسطيني، وستشكل عقوبة تضرّ “إسرائيل” في نهاية المطاف بشكل أكبر من تركيا.
  4. رفض “إسرائيل” استقبال المساعدات الإنسانية التركية المتوجهة إلى قطاع غزة عبر مصر، وتصل إليه بحراً وجوّاً، وتزن أكثر من 42 ألف طن، مع أنّ القرار التركي تجاه “إسرائيل” جاء أساساً للضغط عليها للسماح بتدفّق المساعدات الإنسانية إليه دون عوائق.
  5. بناء بنك بدائل واسع للاقتصاد “الإسرائيلي” لمجموعة متنوعة من المجالات والمنتجات، ومساعدة قطاعات التصدير للبحث عن خيارات جديدة، بجانب العثور على الشركات والمصانع التي ستصدر البضائع والمواد الخام المفقودة ل”إسرائيل” بديلًا لتركيا، على أن يتم استيراد بعضها من دول “صديقة” مثل ألمانيا وبريطانيا والتشيك والمجر واليونان.

تشير القراءات “الإسرائيلية” إلى أنّ القرار التركي سيؤدي لإلحاق أضرار جسيمة بصناعتها وتجارتها، لاسيما بالنظر إلى الأرقام الواردة أعلاه، المتعلقة بحجم التعاملات التجارية الثنائية، مما يفسح المجال لتوقع توقف عشرات المصانع “الإسرائيلية” عن تصدير بضائعها إلى تركيا بقيمة مليار ونصف المليار دولار، وصحيح أنّ القرار التركي بلغة الأرقام الجافّة يبدو أقلّ أهمية، بغض النظر عن التبعات الاقتصادية للقرار التركي، لكنه سابقة سياسية، ويعتبر إشكالياً للغاية، وبالرغم من أنّ الاقتصاد “الإسرائيلي” سيعرف كيف يتعامل مع انخفاض حجم التجارة مع تركيا، إلّا أنّ الخطوة تذهب باتجاه تأصيل مقاطعة “إسرائيل”، والانفصال عنها بمختلف المجالات.

تُضعِف المقاطعة التركية كل الشركات “الإسرائيلية”، وليس فقط تلك التي تقيم علاقات تجارية مع تركيا، في ذات الوقت فإنها ستمنح منافسي الشركات “الإسرائيلية” حول العالم فرصة الاستفادة من هذه الخطوة ومثيلاتها، وهناك عدد غير قليل منها يسعى إلى استغلال الخطوة التركية لتوسيع حصتها في السوق على حساب نظيرتها “الإسرائيلية”، ويمكن للمنافسين الاتصال بالعملاء الذين يحتفظون بعلاقة تجارية معها، ويحاولون إقناعهم بأنّ العمل مع الشركات “الإسرائيلية” لا يجلب إلّا الصداع، لأنها تعيش في الشرق الأوسط، المنطقة الخطيرة للغاية، وتشنّ حرباً متعددة الأطراف ضد: غزة وإيران واليمن ولبنان وسوريا.

يمكن الحديث عن أهم النتائج التي ستشهدها الأسواق “الإسرائيلية” عقب الخطوة التركية في المجالات التالية:

  1. قطاع البناء:

يتركز التأثر “الإسرائيلي” المتوقع من القرار التركي في مجال البناء، حيث تعتمد صناعة البناء “الإسرائيلية على استيراد كميات كبيرة من المواد الخام من تركيا، وعلى رأسها الإسمنت والحديد بأنواعه ومواد ومنتجات البناء والحمامات والرخام والمراحيض والمغاسل، ومن المحتمل أن يتأخر بناء آلاف الشقق لمدة ستة إلى ثمانية أشهر، وفقًا لرئيس جمعية البنّائين “راؤول سارغو”، متوقعاً حدوث تأخير وتوقف في البناء في مجالات مهمة، مثل بناء المدارس لبدء العام الدراسي، وتدشين المؤسسات العامة، واستمرار بناء الطرق والجسور والأنفاق، وأعلن عشرات المقاولين “الإسرائيليين أنهم على وشك الإفلاس، وقد ينهارون، كما أنّ أسعار الشقق ستشهد ارتفاعاً مطّردا.

بات الصناعيون من جهتهم يبحثون في الأسابيع الأخيرة عن بدائل للمنتجات التركية، وتجري محاولات لاستيراد الإسمنت من مصر وإسبانيا، فيما توجد بدائل للأرضيات والسيراميك والأدوات الصحية من الصين، ويمكن شراؤها بسعر معقول نسبياً، لكن تهديد الحوثيين في البحر الأحمر يتسبّب بارتفاع تكلفة النقل من هناك، فيما تُعدّ إيطاليا مصدرًا آخر لهذه المنتجات، لكنها أكثر تكلفة، كما أنّ هناك نقصًا حادًا في أحجار الواجهات للمباني الراقية، فتركيا تعتبر مصدرها الرئيسي، وبديلها هو حجر الكسوة المحلي المستورد من الصين، فيما شهدت شركات المواد اللاصقة والخرسانة والجبص والحجر انخفاضًا في الطلبيات بنسبة 50٪ بسبب نقص العمال، فبدونهم لا يفتح المقاولون مواقع البناء، ولا يطلبون المنتجات الواردة من الأسواق التركية، مما يعني أنّ أي بديل لها سيكون باهظ الثمن، وسيؤثر في نهاية المطاف على الجمهور، لأنه سيرفع أسعار الشقق بشكل حادّ، بسبب ارتفاع أسعار المنتجات.

بلغت قيمة الواردات “الإسرائيلية” من تركيا من المعادن عام 2023، بما فيها الحديد والصلب، أكثر من 1.2 مليار دولار، مما يشكل أكثر من 20% من استيراد “إسرائيل” منها، وفي 2022 بلغت قيمة استيراد منتجات الحجر والجص والإسمنت والأسبستوس والسيراميك والزجاج وغيرها حوالي 500 مليون دولار، بحسب شركة Coface Bdi، بقيمة إجمالية 4.6 مليار دولار في 2023، حوالي 5% من إجمالي الواردات ل”إسرائيل”.

يخشى “الإسرائيليون” من تكرار أزمة وباء كورونا، حين تأثر قطاع البناء بصورة كبيرة عقب توقف استيراد المواد من الصين مصدر الوباء، مما أدى إلى قفزة في أسعار المنتجات التي أضرت بقدرة المشاريع على الاستمرار، واليوم إذا نفَّذت تركيا تهديداتها بمنع تصدير مواد البناء ل”إسرائيل”، فمن المتوقع تكرار أحداث كورونا، لأنّ الأتراك يسيطرون على صناعة الصلب في “إسرائيل”، التي لم يبق منها سوى مصنعين، وصناعة الإسمنت، التي لم يبق منها سوى مصنع واحد.

  • السياحة والطيران:

تعد تركيا أحد الشركاء التجاريين الرئيسيين ل”إسرائيل” فيما يتعلق بالطيران والسياحة، وباتت وجهة الطيران الرئيسة للسائح “الإسرائيلي” عام 2023، وسافر إليها 2.3 مليون “إسرائيلي”، بنسبة 13.1% من إجمالي الرحلات الجوية “الإسرائيلية”، فيما اعتُبرت الخطوط الجوية التركية الشركة الرابعة من حيث حجم عملياتها في “إسرائيل” عام 2023، بعد شركات “يسرائير وأركيع وبيغاسوس”، كما تُعدّ الخطوط الجوية التركية ثاني أكبر شركة من حيث رحلات الشحن التي هبطت في “إسرائيل” بعد “إلعال”، وأفرغت 10.6 طن من البضائع فيها عام 2023، وتعتبر تركيا ثالث أكبر دولة من حيث الشحن الجوي الذي يدخل “إسرائيل”، ففي عام 2023 دخل عبرها إلى “إسرائيل” 21.5 ألف طن من البضائع.

تقلصت الرحلات الجوية المتبادلة حتى توقفت تمامًا مع اندلاع العدوان “الإسرائيلي” على غزة، وارتفاع حدة الخطاب التركي ضد “إسرائيل”، ويُتوقع أن تتأثر السياحة البينية سلباً من القرار التركي، وأن تصل الخسارة “الإسرائيلية” من تراجع السياحة التركية إلى مئات ملايين الدولارات، رغم أنّ استطلاعاً أجرته شركة Geocartography أظهر أنّ 82% من “الإسرائيليين” زعموا أنهم لن يسافروا إلى تركيا، حتى لو تحسنت العلاقات معها.

  • المنتجات الاستهلاكية:

يمكن رصد العديد من التأثيرات السلبية المتوقعة على القرار التركي بالنسبة للمستهلك “الإسرائيلي”، ففي العديد من المنتجات سيكون التأثير فوريًا، خاصة في صناعات الأغذية والنظافة والبناء، ويُتوقع أن تكون الأسعار من المصادر الأخرى أعلى، مما يجعل المنتجات والمواد الخام في هذه الصناعات أكثر تكلفة، وقد تصبح بعض السلع أكثر تكلفة قريبًا، بمعدلات تتراوح بين 3% إلى 15%، بما في ذلك المنتجات الكهربائية والنسيجية، خاصة إذا لم يُعثَر قريبًا على بدائل لها، لأنّ “إسرائيل” ظهرت غير مستعدة لهذا الوضع، مع العلم أنه في صناعة السلع الكهربائية، تزيد الواردات “الإسرائيلية” من تركيا عن مليار شيكل سنويًا.

أكد المتخصص في تحليل العلامات التجارية “عيران إرليخ” أنّ “الأسواق الإسرائيلية ستشهد قريباً زيادات في أسعار المنتجات الكهربائية المستوردة من تركيا، حيث اعتمد المستوردون على السفن التي يفترض أن تغادرها، وتحتوي على مواقد وثلاجات وأفران مدمجة، لكن البضائع ظلت هناك، ولا يوجد توقّع لموعد وصولها، ولا يتعلق الأمر بعدم وجود سلع في السوق، فهناك علامات تجارية أخرى، لكنها تكلّف أكثر، وبالتالي فإن الحلّ اليوم هو التوجه إلى الصين، فالمنتج أرخص، لكن النقل أكثر تكلفة، مما سيزيد السعر بمقدار 200-500 دولار، لأنّ مدة انتظار تسليم البضائع منها ستتضاعف بنسبة 100%، وستزيد من 60 يوماً إلى 120 يوماً”.

على صعيد الملبوسات، يشكل قرار تركيا تحديًا للمستوردين “الإسرائيليين” للعلامات التجارية الاستهلاكية العالمية والعلامات التجارية الخاصة لتجار التجزئة، كونها تُعدّ بديلاً رخيصًا نسبيًا لها، كما أنّ عددا كبيرًا من الشركات العالمية الكبرى في مجال المنتجات الاستهلاكية مثل “يونيليفر وبروكتر آند غامبل وبالموليف كولغيت” لديها مصانع في تركيا، يشتري منها المستوردون الوحيدون في “إسرائيل”، بينهم: “ديبلومات وشاستوفيتز ويونيليفر”.

يوجد العديد من المنتجات التركية التي يتم تسويقها في “إسرائيل”، مثل “مزيل العرق “سبيد ستيك”، وصابون بالموليف، ومساحيق الغسيل آرييل، وحفاضات بامبرز”، كما تقوم شركة يونيليفر بتصنيع بعض من منتجات الصابون والشامبو الخاصة بها من شركة دوف في تركيا، وتستورد شركة الأغذية العملاقة “ويلي فود” بعض منتجاتها من هناك، وذكرت شركة “Friedenzon” التي تتعامل في الخدمات اللوجستية، عن احتمال تعرضها لأضرار من القرار التركي.

من جهته أكّد “آدم فريدلر”، أحد مالكي شركة Good Pharm المتخصصة في الواردات الموازية، الذي يرى في تركيا “صين أوروبا”، أنّ “الأتراك يوقفون كل طلب لمنتجات تحمل ملصقات عبرية بسبب المقاطعة، مما يستدعي الإعلان عن تسهيل دخول أي منتج تستورده “إسرائيل” بديلاً للمنتج التركي المعادل، قبل وقوع الكارثة الاقتصادية المتحققة، وفراغ الأرفف هنا، وحينها سيكون قد فات الأوان، لأنّ جزءًا كبيرًا من منتجات العلامة التجارية يتم استيراده من تركيا”.

  • قطاع النفط:

لم تشمل المقاطعة التركية الرسمية حتى الآن صادرات النفط الواردة من أذربيجان إلى “إسرائيل” عبر تركيا، ففي الوقت الذي احتلت فيه “إسرائيل” المركز الأول من وجهات تصدير النفط الأذربيجاني بـ523.5 ألف طن بقيمة 297 مليون دولار، وفي ظل تمتّع الرئيس الأذري “إلهام علاييف” بعلاقة ممتازة مع رئيس الوزراء “الإسرائيلي” “بنيامين نتنياهو” والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، فإن أذربيجان تُعدّ موردًا مهمًا للذهب الأسود الذي يصل عبر خط أنابيب باكو-تبليسي-جيهان (BTC)، ويتم تحميله على ناقلات في الطريق إلى حيفا، وفي ضوء العلاقات المميزة بين باكو وأنقرة، فلم توقف الأخيرة حتى الآن تحميل ناقلات النفط من ميناء جيهان التركي إلى الموانئ “الإسرائيلية”.

في الوقت ذاته، فإن سوق الطاقة “الإسرائيلية” سيكون مطالبًا بالشراء من أسواق أخرى غير تركية، مما قد يؤثر على تكلفة الوقود، ونقله إلى المصافي في “إسرائيل”، حيث يتم تفريغ ناقلات النفط الخام في ثلاثة موانئ: حيفا وعسقلان وإيلات، تمهيدًا لتكريره وبيعه لمحطات الوقود والصناعة، وفي حال توقف نقله عبر تركيا، فسيكون ضروريًا لإسرائيل إيجاد مصادر بديلة، ستترك تأثيراتها السلبية الكبيرة على هذا القطاع الحيوي.

  • سوق السيارات:

وفقاً لبيانات جمعية مستوردي السيارات، فإنه اعتبارا من الأشهر الأربعة الأولى من عام 2024، تحتل تركيا المركز الرابع من حيث حجم صادرات السيارات ل”إسرائيل”، بعدد 23.363 سيارة، بعد كوريا الجنوبية التي بلغت صادراتها من السيارات ل”إسرائيل” 24.262 سيارة، و21.879 من الصين، و16.600 من اليابان، وقبل الأزمة الحالية، ظهر طرازان من سيارات “هيونداي” تستوردهما “إسرائيل” من تركيا هما: i10 وi20، ويعاني مستوردوها من صعوبات في التوريد منذ عدة أشهر، لكن من الناحية العملية، وبعد القرار التركي فلا يمتلك المستورد سيارات “ميني أو سوبر ميني” للتسليم الفوري للعملاء، ولا توجد توقعات دقيقة للتسليم، وحالياً لم تتم صياغة خطط “إسرائيلية” بعد في صناعة السيارات للتعامل مع الوضع الجديد تجاه تركيا، فلا يزال هناك تفاؤل بين مستوردي السيارات بشأن التوصل إلى حلّ سياسي يسمح بمواصلة التصدير، ولكن إذا لم تصل المركبات ل”إسرائيل” من تركيا، فسيتعين على مستورديها شحنها إلى الموانئ القريبة، خاصة ميناء سالونيك.

في سيناريو آخر، سيتعين على المستوردين “الإسرائيليين” استيراد السيارات الموجودة بالفعل في مخازن الوكلاء، أي “تجار” شركات تصنيع السيارات في أوروبا، وفي مثل هذه الحالات يمكن توريدها ل”إسرائيل” بشكل غير مباشر من الشركة المصنعة، أو شرائها من التجار كحلّ مؤقت، مما يعني تنازل المستوردين عن حصة من الربح لصالح “التاجر” الذي سيشترون منه.

أمّا قطاع بطاريات السيارات، فهو من أوائل القطاعات المرشحة لارتفاع سعرها بسبب نقصها في السوق، حيث تستأثر صادرات تركيا ل”إسرائيل” منها على 35% من سوقها، مما يجعلها مهيمنة في هذه الصناعة، ومن بين العلامات التجارية Silver وStart، وفي ظل الأزمة الحالية عقب القرار التركي الذي أسفر عن توقف الواردات ل”إسرائيل”، فقد أبلغت العديد من الشركات الموزّعين بتوقف المبيعات، وأنها لن تتمكن بعد الآن من بيعها، مما يشكّل معضلة كبرى لتجار قطع الغيار في “إسرائيل”، التي استوردت نصف مليون بطارية سيارة من تركيا، بنسبة أكثر من ثلث السوق كله، ولذلك من المتوقع أن تشتد أزمة البطاريات مع قدوم فصل الصيف، الذي يشهد زيادة في الطلب عليها، لأنه يتطلب استبدالها دائماً، مما يشكل أزمة “إسرائيلية” في حال لم تُحل الأزمة مع تركيا.

  • المواد الغذائية:

كشف القرار التركي عن تدهور مكانة “إسرائيل” على المستوى الزراعي العالمي، وأكد أنّ أمنها الغذائي غير مضمون، ومن المشكوك به أن يتغير في المستقبل المنظور، ولذلك ستؤدي المقاطعة التركية إلى الإضرار بإمدادات الأسماك الطازجة وزيت الزيتون، حيث تستورد “إسرائيل” 93% من استهلاكها المحلي من الأسماك، تأتي نسبة 63% منها من تركيا، والباقي من قبرص واليونان وإسبانيا، مما يعني معاناة التجار من أضرار وشيكة، لأنّ الخطط الحكومية “الإسرائيلية” لتعزيز الإنتاج المحلي من الأسماك وصلت نقطة منخفضة، وباتت معرضة لخطر الانهيار، وقد قفزت واردات “إسرائيل” لزيت الزيتون من تركيا إلى 83%، رغم مزاعمها بأنّ الأشهر الأخيرة شهدت اكتشاف عدد كبير من مشاكل الجودة فيه، مما دفع وزارة الصحة لجمعه من الرفوف، كما يشكل استيراد زيت عباد الشمس الخاص بالطهي المعبّأ من تركيا ما نسبته 45%، لكن النسبة انخفضت في إبريل إلى 26% فقط.

فيما يتعلق بالفواكه والخضروات، لا يتوقع “الإسرائيليون” حاليًا أيّ نقص في المنتجات الزراعية، وفقا لما ذكره “إيلان شيفا” الرئيس التنفيذي ومالك شركة “بيشوري شيدا” لبيع الخضروات، بالقول: “إننا نتدبر أمرنا بسهولة من دون تركيا، ولا يوجد أي تأثير سلبي لرسالتهم باتجاهنا، يوجد حاليًا ما يكفي من المنتجات المحلية، وإذا كان هناك قليل من النقص، فإننا نتجه إلى الأردن بديلًا، مع أنه منذ بداية العام، كان استيراد الخضروات الطازجة من تركيا في اتجاه هبوط مستمر”.

تتمثل الواردات الغذائية “الإسرائيلية” من تركيا أساساً في البصل والخيار والفلفل والكوسا والطماطم، بجانب استيرادها من دول أخرى، وهي الأردن وهولندا وإسبانيا والصين، ومنذ اندلاع حرب غزة باتت الكميات المستوردة من الخضار الطازجة هامشية، أمّا الفاكهة الطازجة، فإنّ الواردات “الإسرائيلية” من تركيا تنحصر بشكل أساسي في الكمثرى، بنسبة 34% من إجمالي الاستهلاك “الإسرائيلي”، لكن النسبة انخفضت إلى 18% فقط.

  • الصناعة والمواد الخام:

تلوح عواقب القرار التركي في الأفق، وستشعر بها “إسرائيل” في الأيام والأسابيع المقبلة، فلن تصل المواد الخام الأساسية للصناعة، وإنّ إيجاد مصادر استيراد بديلة يتطلب وقتًا ومجموعات من الاتفاقيات، وحتى عند توقيعها، فيحتمل أن تكون أسعار البضائع أعلى بكثير مما يطلبها مورّدوها، وإنّ سدّ هذه الفجوات في الأسعار سيأتي من “مَحافظ” المستهلكين “الإسرائيليين” الذين يئِنّون بالفعل من تكاليف المعيشة المرهقة بشكل متزايد، مع العلم أنّ زيادة الإنتاج “الإسرائيلي” المحلي ليكون بديلًا للمنتجات الأساسية التي توقف استيرادها من تركيا الآن لن يتحقق بضغطة زر، وسيتطلب الأمر استثمارات كبيرة في إنشاء خطوط الإنتاج، وتوظيف وتدريب العمال، وقبل كل شيء، اليقين الأمني والسياسي، الذي لا تستطيع الحكومة توفيره للاقتصاد.

  • الشحن والتأمينات:

دفع القرار التركي الأخير ثلاثة خطوط شحن تركية لإلغاء خدماتها مع نظيرتها “الإسرائيلية”، مما يستدعي من “إسرائيل” تعويض شركاتها المتضررة، مع أنه لا توجد شركة في “إسرائيل” لا تستورد من تركيا، من “شتراوس وتنوفا وكوكا كولا تيمبو” وغيرهم، وتستغرق هذه الشركات أشهرًا للعثور على مورّدين بديلين، وتوقيع الصفقات والالتزامات، وإذا استمر هذا لفترة طويلة سيكون هناك نقص في العديد من السلع، وقد كشف “يورام زيفا” رئيس رابطة شركات الشحن “الإسرائيلية” أنّ “الجمارك التركية رفضت التعاون مع الموردين “الإسرائيليين”، مما تسبب بوقوف البضائع في منتصف سلسلة التوريد، لأنها لا تسمح بإدخال البضائع وإخراجها، وهناك سفن عادت بعد أن أبحرت، مع أنّ معظم البضائع القادمة من تركيا ل”إسرائيل” تمرّ عبر البحر الأبيض المتوسط”.

إنّ أحد الأسباب التي جعلت تركيا وجهة استيراد رئيسية لل”إسرائيليين”، بجانب تكاليف الإنتاج الرخيصة، هو المسافة القصيرة نسبيًا بينهما، حيث تستغرق الرحلة إلى جنوب تركيا 18 ساعة، ولا تعدّ مسافة طويلة، وبالتالي فإن المصادر الأخرى ستكون أطول أيضًا، خاصة إذا كان البديل من الصين، فضلًا عن كونها أقل جودة، كما أنّ هجمات الحوثيين في البحر الأحمر تسببت بأن تدور جميع الخطوط حول رأس الرجاء الصالح، وتفرغ البضائع غرب البحر المتوسط.

أمّا بالنسبة لقطاع التأمينات التجارية، فقد أكد “عادي نوف” الرئيس التنفيذي لشركة “ساساه” العاملة في مجال التأمين والتجارة الخارجية، أنّ “حرب غزة أسفرت عن شيوع أجواء سلبية لشركاتنا العاملة في النشاط التجاري في الخارج، ومنها تركيا، مما يستدعي التخطيط لبدائل الآن، وعدم الانتظار حتى تُفرض القيود التركية الصارمة، مع أنّ هذه الحلول ستزيد التكاليف، وفي النهاية ستكون من جيوب الإسرائيليين”.

لا تُخفي الشركات “الإسرائيلية” العاملة في مجال التأمينات أنها شهدت مؤخرًا أجواء عمل غير مريحة تجاهها في أسواق تركيا، التي تفضّل العمل مع نظيرتها القادمة من بيئات اقتصادية جيدة ومستقرة، ولا يبدو أنّ “إسرائيل” خيار مناسب لها الآن، حيث تتطلب الاستعداد لتقليل الأضرار المتوقعة، في ظل عدم تلقيها عروض أسعار تركية للتعامل معها، بل تفضّل شركاء من دول أخرى، لأنها تدرك أنها لو عملت مع الشركات “الإسرائيلية” اليوم، فستشعر براحة أقلّ، في ضوء المخاوف من مخاطر عدم الدفع أو عدم تسليم المعاملة في الوقت المتفق عليه، ولذلك باتوا اليوم أكثر ترددًا في التعامل معها.

لا ينبع جزء أساس من تأثير خطوة إيقاف تركيا للتجارة مع “إسرائيل” فقط من ضخامة تجارتهما، ولكن أيضاً لأن المنتجات التركية رخيصة وتنافسية، وبالتالي فإنّ غيابها أو استيرادها عبر وسيط من شأنه زيادة الضغوط التضخمية على “إسرائيل”، ورغم ذلك فقد بدأت شركاتها في تجربة “الطرق الالتفافية البديلة” للنقص المتوقع في المنتجات والسلع والبضائع على المدى القريب، وتشمل تغيير الموردين، والبحث عن أسواق بديلة، مع ما يرافق ذلك من رفع التكلفة.

بدأ رجال الأعمال في الجانبين منذ اللحظات الأولى لقرار المقاطعة التركية في العمل معاً للتحايل على القرار، وإيجاد بدائل، واستخدام وجهة ثالثة مثل موانئ كوبر أو ليوبليانا في سلوفينيا لنقل البضائع ل”إسرائيل”، وبدلاً من كتابة اسمها في خانة ميناء الوجهة على بوليصة الشحن، يتم النقل لميناء ثالث، ومن هناك إليها، من خلال إجراء يسمى “الإعلان”، بموجبه يتم نقل البضائع إلى الدولة الثالثة، وتبادل سندات الشحن، وتحميل البضائع على سفينة أخرى، ثم نقلها إلى “إسرائيل”، في محاولة غير مضمونة أمام مصلحة الجمارك التركية، التي تُعدّ واحدة من أصعب الجمارك في العالم في مجال التفتيش.

يكمن الدافع الذي يجعل “الإسرائيليين” يفضّلون الخيار السلوفيني أنّ أنظمتها ملائمة لهم، وبمجرد وصول البضائع لموانئها، يتم إنزال البضائع للرصيف، وإبلاغ الجمارك المحلية أنّ البضائع لن تدخل البلاد، ويتم تحميلها على سفينة أخرى، ومن هناك إلى الوجهة النهائية في “إسرائيل”، ورغم أنّ هذا الإجراء سيؤدي إلى مضاعفة تكاليف الشحن، لكنه سيكون السبيل الوحيد بالنسبة للمستوردين “الإسرائيليين” للحصول على البضائع التركية، وضمان استمرار تدفقها، حتى ولو بكميات أقل، لموانئ في دول مختلفة مثل بلغاريا واليونان ومصر، ومن هناك ستصل أخيرًا إلى “إسرائيل”، مع العلم أنّ تبعات قرار تركيا بمقاطعة “إسرائيل” لا يعني منع وصول كل شيء يتم إنتاجه فيها، بل سيصل بعض منها، لكن من خلال إيجاد الحلول والطرق الالتفافية، مما يستدعي الاستعداد لذلك مسبقًا في كيفية ترتيب تحويل الأموال مثلاً، فالبنك التركي المباشر لن يوافق على التحويل لشركات “إسرائيلية”، ومن الواضح أنّ هذه الإجراءات تزيد من تكاليفها، ولئن كانت المقاطعة لا تقتصر على تركيا اليوم، فقد تتطور لبلدان إضافية، تحتاج لمنحها الثقة للتعامل معها، وهذا أمر يصعب على “إسرائيل” توفيره، على الأقل في ظل حرب غزة.

وجّه “شاي حاغ” رئيس المركز الحكومي الإقليمي “مرحافيم” اللوم على الحكومة “الإسرائيلية”، لأنها لم تستمع لتحذيراتهم مرة بعد مرة من ضرورة الاستقلال الغذائي والتجاري، وعدم الاعتماد على دول أخرى، بما فيها تركيا، لكن السياسة المالية الحكومية كانت، ولا تزال، تشجع الواردات، وهو ما لم يخفّض الأسعار، ولذلك مثلًا فإنّ استيراد الطماطم من تركيا أضرّ بالمزارعين “الإسرائيليين” المحيطين بقطاع غزة، المسؤولين عن زراعة 70% من إنتاج الطماطم في “إسرائيل”، ولقد كشف القرار التركي عن إشكالية خطيرة تمثلت في أنّ “الإسرائيليين” وضعوا كل “البيض في عدد من السلال الوحيدة، ومنها تركيا”، التي يستوردون منها المواد الغذائية والأقمشة ومواد التنظيف والورق المبلّل، رغم أن مستودعاتهم تحتفظ بهذه المواد على مدى الأشهر الأربعة المقبلة على الأقل، مما يستدعي من الآن فتح نوافذ أخرى في عدد آخر من البلدان، وعدم الوقوع تحت “رحمة” تركيا، وفق التوصيف “الإسرائيلي”.

استنتج “الإسرائيليون” من الأزمة الحالية مع تركيا أنّ حكومتهم، ولسنوات عديدة، دفعت الصناعة المحلية جانباً لصالح الواردات من الخارج، وفضّلت الأسعار “الرخيصة” على التفكير الشامل طويل الأجل، وردّد الوزراء شعار “ما هو جيد لأوروبا جيد لإسرائيل”، لكن النتيجة اليوم أنّ صناعاتهم تتلاشى، وغابت “شبكة الأمان” عنهم رغم، أنها ضرورة وجودية بالنسبة ل”إسرائيل” المحاطة بالعديد من الدول المعادية لها، ورغم ذلك فإنها تختار، بوعي وإدراك كامل، عدم تشجيع الاقتصاد المحلي، وتستمر في تفضيل الشركات والموردين الأجانب، مما يلحق الضرر العميق والمتعمد بالمصنعين والعمال “الإسرائيليين”.

في المقابل، كشفت الخطوة التركية وتبعاتها بأنّ “إسرائيل” لديها جملة من التحديات التي تواجهها صناعاتها المحلية في محاولة تعويض الصناعات التركية المستوردة، بدءاً من النقص الهائل في عدد العمال، مروراً بالاضطرابات الشديدة في سلاسل التوريد، وانتهاءً بموقف عدائي من الموردين والعملاء في جميع أنحاء العالم، مما أسفر في النهاية عن هروب من المسؤولية، واتخاذ قرارات حكومية تعرّض احتياجات الاقتصاد المحلي للخطر، رغم أنّ القرار التركي كشف لل”إسرائيليين” خطأ توجهاتهم الحكومية القائمة على تفضيل الواردات من البلدان “المريحة” بزعم أنها أفضل من الصناعة المحلية، مما أدى في النهاية إلى تآكل الأمن الإنتاجي بشكل متزايد.

لا يُخفي “الإسرائيليون” خيبة أملهم من التأثيرات المتوقعة للمقاطعة التركية على اقتصادهم، باعتبار أنّ القرار سيوجه ضربات إلى جيوبهم، لأنهم اعتادوا على المنتجات التركية رخيصة الثمن، ولذلك سيجدون تأثيرات القرار بالزيادة المتوقعة في أسعار الشقق، مروراً بارتفاع أسعار السيارات، والمواد الغذائية والمنتجات الاستهلاكية، وهي أضرار عميقة سيشعرون بها قريباً، وهذه كلها نقاط ضعف تنتظرهم نتيجة لسياسات حكومات “نتنياهو” في العقد الماضي، التي تضمنت إلغاء الرسوم الجمركية التي كان يفترض أن تحمي الصناعات الأساسية، لكنها سقطت مرارًا وتكرارًا على مذبح الواردات الرخيصة من مصانع الإنتاج في تركيا، كل هذا يستدعي من الصناعيين والمستهلكين “الإسرائيليين” أن يرسلوا “أكاليل الشوك” لوزراء حكومات “نتنياهو” الذين أغمضوا أعينهم عندما اشتعلت الأضواء الحمراء من بعيد، لأنّ سياساتهم الاقتصادية تسببت بإغلاق المزيد من المصانع وخطوط الإنتاج، وقد دفعهم اكتظاظ موانئ حيفا وأسدود بالمزيد والمزيد من الحاويات المحملة بالبضائع التركية إلى عدم الاستماع إلى التحذيرات المتكررة من أنّ تزايد الاستيراد من تركيا سينفجر في وجوه “الاسرائيليين” جميعاً، اعتقادًا منهم أنها ستحافظ على الفصل التام بين السياسة والاقتصاد، لكن حرب غزة كانت كفيلة بتحطيم هذا المفهوم “الإسرائيلي” إلى قطع متناثرة، وكان قرار تركيا بوقف العلاقات التجارية بمثابة مفاجأة كاملة في “إسرائيل”، لم تُعرف بعد إلى أين ستصل تبعاته ونتائجه.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى