مقالات ورأى

يحيى حسين عبدالهادي يكتب:الاشتغالة الأخيرة


(الاشتغالٌ عن شئٍ يعني الإلهاء عنه .. وهو نفس المعنى في اللهجة المصرية الحديثة التي تختصره في “بُص العصفورة”).
في يومٍ من أيام المعتقل، وبعد أن استمعتُ إلى بعض الآراء الشاذة من أحدهم، حَدَّثَتْنِي نفسي بحسرةٍ: (هل أنا محبوسٌ هنا دفاعاً عن هذه الهلاوس؟) .. فَلَّما تَدَّبَرْتُ الأمر أَجَبْتُ: (لا .. لستُ هنا دفاعاً عن هذه الهلاوس .. وإنما دفاعاً عن حق هذا المهلوس في أن يُعَّبِرَ عن هلاوسه دون أن يُنَّكَلَ به .. وهو في الحقيقة حَقِّي أيضاً، فما أقوله من وجهة نظره هلاوس بلا شك).


لا يزعجني الرأيُ المخالف مهما بلغَ شذوذه (من وجهة نظري) بِقَدْرِ ما يزعجني الخروج بخلافات الرأى إلى ساحات المحاكم .. لا سيما في عصرٍ يَصعبُ أن تجد فيه رجلاً كمحمد نور رئيس نيابة مصر فى عشرينيات القرن الماضى الذى حفظ بلاغات تكفير طه حسين بعد كتابه عن الشعر الجاهلى ..

كان محمد نور مثقفاً متعمقاً قرأ الكتاب موضع الشكوى ودققه وأوضح الأخطاء العلمية لطه حسين وفَنَّدَها فى كثيرٍ من المواضع، لكنه لإيمانه بالحق في الاختلاف وحرية التعبير توصَّل نَصَّاً إلى أن: (المؤلف طه حسين وإن كان قد أخطأ فيما كتب إلا أن الخطأ المصحوب باعتقاد الصواب شئٌ، وتعمُدَ الخطأ المصحوب بنية التعدى شئٌ آخر .. لذا تُحفظ الأوراق إدارياً) فأغلق باباً للتكفير وتكبيل الفكر فى مصر لمدة خمسين عاماً تالية على الأقل .. وكسبت مصر والإسلام فيما بعد مفكراً عملاقاً بحجم طه حسين ومكتبةً إسلامية وأدبيةً رائعة ومجتمعاً صحياً تَعَلَّم أن الحُجَّةَ تُقرَعُ بالحُجَة لا بالحبس والغرامة.
ثم جاء زمانٌ حَكَمَ فيه قاضٍ آخر بالتفريق بين الدكتور نصر حامد أبو زيد وزوجته باعتباره مُرتدَّاً لمجرد أن الدكتور عبد الصبور شاهين أحد أعضاء اللجنة العلمية المُشَّكَلَة لمنحه درجة الأستاذية اِتَّهَمَه بالكفر .. وبعد سنواتٍ قليلةٍ شرب عبد الصبور شاهين من نفس الكأس واتُّهِمَ بالكُفر بعد اجتهاده في كتابه (أبي آدم) ..

فعجلة التكفير إذا دارت لا تستثني أحداً، لا سيما إذا تزامنت مع حاكمٍ مستبدٍ يُجيد استغلالها للتنكيل بمعارضيه أو إلهاء رعيته .. عُذِّب بهذه التُهمة ابن حنبل فى عهد المأمون، وصُلِب بها الحلاج فى عهد المقتدر، ونُفِى بها ابن رشد فى عهد أبو يوسف، ولَم يَسْلَمْ من شظاياها قاماتٌ دينيةٌ وفكريةٌ كالغزالي والقرضاوي ونجيب محفوظ.


كُنَّا قد ظننا أن عجلة التكفير توقفت عن الدوران، لا سيما أنَّ عالِماً بحجم الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر رفض أن يرضخ لضغوط إعلام النظام الذي طالَبَه بتكفير داعش بعد إحدى عملياتها الإرهابية وأعلن أن الأزهر لا يحكم بالكفر على شخصٍ، طالما يؤمن بالله وباليوم الآخر، حتى ولو ارتكب كل الفظائع،

وهناك مذاهب تقول إن مرتكب الكبيرة لا يخرج من الإيمان، بل هو مؤمنٌ عاصٍ .. وأضاف: (لا أستطيع أن أُكَّفِر داعش، ولكن أحكم عليهم أنهم من المفسدين في الأرض، فداعش تؤمن أن مرتكب الكبيرة كافرٌ فيكون دمه حلالاً، فأنا إن كَفَّرْتُهُم أقع فيما ألومهم عليه الآن).
ظَلَّ في الساحة شِرذمةٌ من الأفراد يطرحون من آنٍ لآخر آراءً وأفكاراً تتراوح بين الجِدِّيَةِ والتفاهة (وهذا طبيعي)، فأنشأ الأزهر منصة (بيان) قبل ٥ سنواتٍ للردِّ والتوضيح بمنطق (وجادلهم بالتي هي أحسن) .. وكانت الحياة (ماشية) كما يقولون .. إذَنْ ما الذي استجد؟!.


الذي حَدَثَ أنه فجأةً، وبعد أن تَضعضع دفاعُ النظام عن وليده القبائلي الرضيع أمام جبهة واسعةٍ معارِضةٍ لم يتوقعها صاحب هذه الفكرة الشيطانية الكارثية ..

تم الإعلان (وسط احتفاءٍ إعلاميٍ رسميٍ) عن كيانٍ أسماه أصحابه (تكوين)، ليس واضحاً إن كان مركز دراساتٍ أو صالوناً ثقافياً أو دارَ نشر .. كما أن أعضاءَه هم تقريباً نفس الشرذمة السابقة وهم مجموعةٌ متباينةٌ من حيث الثقافة والاهتمامات .. لكن اللافت للنظر أنهم جميعاً من المَرضِي عنهم من النظام، ورغم رفعهم راية التنوير فإنَّ فَهْمَ بعضهم لهذه القضية الكبيرة مُشَّوَشٌ لا يتجاوز شكلَ الملابس(!) ولَم يُضبَطْ أحدُهم من قبل مُتَلِبِساً بانتقاد سياسات النظام المُقَّيِدَة للحريات، مع أنَّ قضية التنوير الأولى هي حرية الرأي والتعبير، لكنهم اختصروها في حريتهم في تناول بعض الموضوعات الدينية (الأمانة تقتضي استثناء إبراهيم عيسى الذي طالَبَ بالإفراج عن سجناء الرأي عدة مرات في حدود المساحة المتاحة له).


بعد ذلك بيومين فقط، تم الإعلان (وسط احتفاءٍ إعلاميٍ رسميٍ أيضاً) عن كيانٍ أسماه أصحابه (تحصين)، وهُم ليسوا فقط من المَرضِي عنهم وإنما يتصدرهم بعضٌ ممن يرَوْنَ أن طاعة الحاكم واجبةٌ حتى إذا سَرَقَ أو ظَلَمَ ..

ورغم رفعهم راية التَدَّيُن فإنَّ فَهْمَ بعضهم لهذه القضية الكبيرة مُشَّوَشٌ لا يتجاوز أيضاً شكلَ الملابس(!) .. وتَطَّوَرَ الأمرُ إلى السَبِّ والقذف والخوض في الأعراض والتكفير (وكُلُّها أساليب تتناقض مع صحيح التَدَيُّن).


عندما قال خطيب الجمعة إن موضوع الخطبة المُوَّحَدَةِ عن المركز الجديد الذي يدعو للإلحاد (هكذا قال!)، لم يخالجني شَكٌّ في أنَّ الموضوعَ بِرِّمَتِه اشتغالةٌ مُوَّجَهةٌ .. لكنها اشتغالةٌ خطيرةٌ غير مسؤولةٍ .. قد يَنْتُجُ عنها ضحايا بِنَصْلِ التكفير .. رَبّنا يستر.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى