قَمعُ المُحتجين على محاولة إبادة غزة ليس عابرًا، بل جزء من ممارسات منهجية تدق مسمارًا جديدًا فى نعش ما كان يُعرف بالديمقراطية فى الولايات المتحدة.
النظام السياسى الأمريكى يتحول منذ سنوات باتجاه شكل من أشكال الطغيان. وسرَّعت مشاركة إدارة بايدن فى العدوان على غزة هذا التحول الذى يقود إلى حالة أسوأ من ديكتاتورية الأقلية.
كان التحذير من هذا النمط من أنماط الديكتاتورية مصاحبًا تقريبًا لبناء وانتشار الديمقراطية التمثيلية فى الغرب، ومحاولات تقليدها فى بلدان أخرى فى العالم.
لم يعبر هذا التحذير عن مخاوف فقط، بل كان دالا على معضلة هيكلية فى الديمقراطية التمثيلية حين تنصرف الأحزاب الحاكمة وساستُها المنتخبون باعتبارهم مُفوَّضين تفويضًا كاملا حتى موعد الانتخابات التالية، ويصبح الناخبون أى الأغلبية الساحقة متفرجين على أخطاء أو خطايا أو كوارث لا يجدون سبيلا لوقفها بدعوى أن هذه هى الديمقراطية.
ورغم أن دورية الانتخابات أتاحت فرصًا للتصحيح، فقد حدث هذا أحيانًا بعد فوات الأوان.
كما أن تحول الانتخابات إلى عملية احترافية برع فيها ساسة قادرون إما على تزييف الوعى العام، أو الحصول على تمويل ضخم لحملاتهم الانتخابية، أضعف فرص التصحيح.
الخلل فى الديمقراطية التمثيلية، إذن، بنائى وليس وظيفيًا فقط، لأنها تنطوى فى بنيتها على ظاهرة ديكتاتورية الأقلية. غير أن ما يحدث الآن فى أمريكا أبعد من ذلك.
فالأقليةُ الطاغية تُصادر أهم ما حافظ على الشكل الديمقراطى للنظام السياسى، وهو الحريات العامة وفى مقدمتها حرية التعبير.
صهينة السياسة الأمريكية تُقَلص المجال العام الذى تُمارَس فيه الحريات, وخرافة معاداة السامية صارت سيفًا تُذبح به.
وحاملو هذا السيف يتحولون إلى طغاة لم يتخيل الآباء المؤسسون للولايات المتحدة أن يوجد مثلُهم فى البلد الذى صاغوا نظامه السياسى بطريقةٍ تصوروا أنها تحد من ديكتاتورية الأقلية.
ولهذا فلو أن المفكر والسياسى الفرنسى أليكسى دوتوكفيل بُعِث حيًا لوجد أن كتابه الذى أُصدر للمرة الأولى عام ١٨٣٥ «الديمقراطية فى أمريكا» يحتاج إلى مراجعة جذرية.
وإذا أُجيدت هذه المراجعةُ فسيكون العنوان المناسب للكتاب «هو الطغيان فى أمريكا».