المعركة لن يحسمها في نهاية المطاف إلا الصمود العسكري لفصائل المقاومة الفلسطينية من ناحية، والصمود السياسي والأخلاقي والمعنوي للشعب الفلسطيني من ناحية أخرى.
حين قررت “إسرائيل” الرد على عملية “طوفان الأقصى” بحرب شاملة على قطاع غزة، وضعت لهذه الحرب 3 أهداف معلنة: إلحاق هزيمة عسكرية شاملة بحركة حماس، وإنهاء حكمها لقطاع غزة،
واستعادة جميع الأسرى المحتجزين لديها، غير أن المسار العملياتي كشف بوضوح أن لهذه الحرب هدفاً آخر غير معلن، هو ممارسة أقصى قدر من الضغوط على سكان غزة لإجبارهم على الاختيار بين الموت تحت حمم النيران المتساقطة على رؤوسهم أو الرحيل وإخلاء القطاع بلا عودة،
وهو ما يفسر لماذا قرر الكيان الصهيوني قطع إمدادات الغذاء والكهرباء عن جميع السكان، وذلك بالتوازي مع قصف لا يتوقف من البر والبحر والجو، شمل كل المباني السكنية والمستشفيات والمدارس ومؤسسات الإغاثة،
وكل الجهات المعنية بتقديم أي نوع من الخدمات التعليمية والصحية والإعاشية، ولماذا أتبع هذا القصف بعملية اجتياح بري واسعة النطاق، اقتضت استدعاء ما يقارب 400 ألف من جنود الاحتياط وتشكيل حكومة حرب.
وقد تركزت الهجمات في بداية الغزو البري على منطقتي الشمال والوسط، إذ طلب من سكانهما التوجه إلى الجنوب، بدعوى أنه أكثر أمناً،
ثم راحت القوات المغيرة تطارد وتقتل كل من يحاول العودة، ما أدى إلى نزوح أكثر من مليون شخص إلى الجنوب وتكدس نحو مليون ونصف مليون في منطقة رفح التي لا تتجاوز 55 كم مربع.
اليوم، وبعد ما يقارب 7 أشهر على بدء هذه الحرب الهمجية، يدَّعي نتنياهو أن جيشه استطاع أن يقضي حتى الآن على نحو عشرين كتيبة من كتائب القسام، البالغ عددها بحسب تقديره24 كتيبة.
أما الكتائب الأربع المتبقية، فيدعي نتنياهو أنها تتمركز في منطقة رفح، وبالتالي فإن الاجتياح البري لهذه المنطقة يضمن إعلان انتصاره النهائي والمطلق على حركة حماس وتحقيق جميع الأهداف المعلنة للحرب.
ورغم افتقار هذه الادعاءات إلى أي قدر من المصداقية، بدليل أن جميع فصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة لا تزال قادرة على العمل من داخل المناطق التي يدعي نتنياهو أن جيشه يسيطر عليها سيطرة تامة،
والتي لا تزال قادرة على إطلاق الصواريخ على الأرض المحتلة عام 1948، فإن معظم القيادات السياسية والأمنية تتبنى وجهة النظر هذه نفسها، وبالتالي تضغط للقيام بعملية اجتياح بري لمنطقة رفح،
من دون أن تبالي مطلقاً بما قد يسفر عن خطوة كهذه من خسائر هائلة في صفوف المدنيين الأبرياء.
الأخطر من ذلك أن نتنياهو يدَّعي أن اجتياح رفح يستدعي بالضرورة إعادة احتلال محور فيلادلفيا الذي يفصل بين القطاع والحدود المصرية،
رغم ما تنطوي عليه خطوة كهذه من انتهاك سافر لمعاهدة السلام المبرمة مع مصر عام 1979 وللاتفاق الذي أبرم مع مصر حول معبر رفح عقب رحيل القوات الصهيونية عن القطاع عام 2005، ما يفسر اعتقاد البعض بأن نتنياهو ليس جاداً في تهديده باجتياح رفح،
وأنه يستخدمه ذريعة للضغط على مصر لدفع حماس إلى تقديم تنازلات تساعد على إبرام هدنة مؤقتة تسمح بتبادل الأسرى المحتجزين لديها بالشروط الإسرائيلية،
غير أن معظم المراقبين يرون أن الخناق بدأ يضيق حول نتنياهو الذي بات في موقف لا يحسد عليه، وخصوصاً أن لديه مصلحة شخصية في إطالة أمد الحرب، لأن توقفها قد يؤدي إلى تفكك حكومته وانهيارها،
فضلاً عن أن الجناح الأكثر تطرفاً في حكومته يرفض إبرام أي صفقة لتبادل الأسرى قد تؤدي إلى وقف دائم لإطلاق النار قبل إعلان الانتصار النهائي والمطلق على حماس، وبالتالي يهدد بالانسحاب الفوري من الحكومة بمجرد إبرام صفقة من هذا النوع، وتلك كلها عوامل تدفع نتنياهو إلى إطالة أمد الحرب لأطول فترة ممكنة.
على صعيد آخر، يلاحظ أن إدارة بايدن، ورغم انحيازها المطلق إلى الكيان الصهيوني، تخشى احتمال إقدام نتنياهو على الاجتياح البري لمنطقة رفح، وذلك لأسباب عديدة أهمها:
1- ضخامة المآسي الإنسانية التي ستترتب حتماً على خطوة كهذه في ظل اكتظاظ منطقة رفح بكم هائل من البشر، وبالتالي تلطّخ سمعة الولايات المتحدة.
2- تأثيراتها السلبية المحتملة في رأي عام عالمي يزداد اقتناعاً كل يوم بأن الحرب التي تشنها “إسرائيل” حالياً على قطاع غزة هي في حقيقة أمرها حرب إبادة جماعية للشعب الفلسطيني تباركها الولايات المتحدة وتشارك فيها مباشرة.
3- احتمال تحول المواجهة الراهنة إلى حرب إقليمية شاملة، في وقت يحتاج الرئيس بايدن إلى تهدئة الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط استعداداً لخوض انتخابات رئاسية بالغة الصعوبة والحساسية.
4- – سكب المزيد من الزيت على نيران حركة الشباب العالمية المناهضة للحرب على غزة، والتي انطلقت من داخل الجامعات الأميركية نفسها، بكل ما ينطوي عليه ذلك من احتمال خسارة بايدن جولة الانتخابات الرئاسية القادمة.
ولأن إدارة بايدن لا ترغب في الدخول في صدام مباشر مع حكومة نتنياهو، رغم قناعتها بأنها أكثر الحكومات تطرفاً في تاريخ الكيان الصهيوني،
يبدو أنها تفضل التعبير عن معارضتها لاجتياح رفح باستخدام وسيلتين متوازيتين ومتكاملتين في الوقت نفسه، الأولى: تأخذ شكل تقديم النصح لحكومة نتنياهو كي لا تقدم على خطوة كهذه إلا بعد إعداد خطة مقنعة لإجلاء وإعاشة السكان المتكدسين في منطقة رفح، توافق عليها الإدارة الأميركية،
وهو ما لم تتمكن الحكومة الإسرائيلية من الوفاء به حتى الآن، والثانية: تسعى لإقناعها بوجود بدائل أفضل لتلك الخطوة المحفوفة بالمخاطر والمشكوك في قدرتها على تحقيق النتائج المرجوة منها.
وتشير دلائل عديدة إلى أن إدارة بايدن تسعى حالياً لبلورة صفقة تؤدي إلى: 1- استعادة الأسرى المحتجزين لدى حماس عبر عملية تفاوضية، 2- مواصلة الضغط العسكري على حماس بأسلوب آخر غير الأسلوب المتبع حالياً، 3- فتح الأفق من جديد نحو حل الدولتين في مقابل تطبيع العلاقة مع السعودية، وتشكيل تحالف إقليمي في المنطقة لمواجهة إيران تقوده الولايات المتحدة وتشارك فيه إسرائيل.
وفي مقال نشرته صحيفة نيويورك تايمز يوم 26 نيسان/أبريل الماضي تحت عنوان: “Israel has a choice to make: Rafah or Riyadh” (على إسرائيل أن تختار بين رفح والرياض)، كشف توماس فريدمان عن الخطوط العريضة لهذه الصفقة،
قائلاً بالحرف الواحد: “تعتقد إدارة بايدن أن الغزو الإسرائيلي واسع النطاق لرفح سوف يقوض احتمالات تبادل جديد للرهائن.. ويدمر 3 مشاريع حيوية كانت تعمل عليها لتعزيز أمن إسرائيل على المدى الطويل، الأول: يتلخص في إنشاء قوة حفظ سلام عربية قادرة على الحلول محل القوات الإسرائيلية في غزة،
كي تتمكن إسرائيل من إيجاد مخرج يجنبها احتلال غزة والضفة الغربية إلى الأبد. وتناقش عدة دول عربية إرسال قوات لحفظ السلام إلى غزة لتحل محل القوات الإسرائيلية التي سيتعين عليها المغادرة – بشرط أن يكون هناك وقف دائم لإطلاق النار – وسيتم مباركة وجود هذه القوات رسمياً بقرار مشترك من منظمة التحرير الفلسطينية، وهي هيئة جامعة تضم معظم الفصائل والسلطة الفلسطينية.
ومن المرجح أيضاً أن تصر الدول العربية على بعض المساعدة اللوجستية العسكرية الأميركية. صحيح أنه لم يتم اتخاذ قرار بشأن أي شيء بعد، لكن الفكرة قيد الدراسة النشطة.
والثاني: اتفاق دبلوماسي أمني أميركي سعودي إسرائيلي فلسطيني تقترب الإدارة من وضع اللمسات الأخيرة على شروطه مع ولي العهد السعودي، ويتألف من عدة مكونات، لكن الشق الخاص بالعلاقة بين الولايات المتحدة والسعودية يشمل 3 مكونات:
1) اتفاقية دفاع مشترك بين البلدين من شأنها إزالة أي غموض بشأن ما ستفعله أميركا إذا هاجمت إيران المملكة العربية السعودية، وسوف تهب الولايات المتحدة للدفاع عن الرياض، والعكس صحيح.
2) تسهيل حصول السعودية على الأسلحة الأميركية الأكثر تقدماً 3) اتفاق نووي مدني خاضع لرقابة مشددة من شأنه أن يسمح للمملكة العربية السعودية بالاستفادة من رواسب اليورانيوم الخاصة بها لاستخدامها في مفاعلها النووي المدني. في المقابل،
سيعمل السعوديون على تقييد الاستثمارات الصينية داخل المملكة العربية السعودية، وعلى تحجيم أي علاقات عسكرية معها، والاعتماد بالكامل على الأسلحة الأميركية في بناء أنظمتها الدفاعية من الجيل التالي،
ما سيشكل مكافأة مجزية لمصنعي السلاح الأميركيين ويجعل الجيشين قابلين للتشغيل المتبادل تماماً.. كما ستقوم المملكة العربية السعودية بتطبيع العلاقات مع إسرائيل، بشرط أن يلتزم نتنياهو بالعمل نحو حل الدولتين مع السلطة الفلسطينية بعد إصلاحها.
وأخيراً، ستقوم الولايات المتحدة بجمع “إسرائيل” والمملكة العربية السعودية والدول العربية المعتدلة الأخرى والحلفاء الأوروبيين الرئيسيين في بنية أمنية واحدة متكاملة لمواجهة التهديدات الصاروخية الإيرانية”.
لا يتسع المجال هنا للتعليق على هذه الخطة التي تنطوي في تقديرنا على مساوئ ومخاطر جسيمة، سواء بالنسبة إلى القضية الفلسطينية أو بالنسبة إلى العالم العربي ككل،
إذ يبدو واضحاً تماماً أنها صممت لخدمة المصالح الاستراتيجية لكل من الولايات المتحدة و”إسرائيل” وحدهما، ولا علاقة لها بأي مصالح فلسطينية أو عربية حقيقية.
وما يطمئن هنا أن فرص الموافقة عليها من جانب حكومة الكيان الحالية تبدو معدومة، نظراً إلى رفضها المطلق لأي أفكار جادة تتعلق بحل الدولتين.
لذا، أعتقد أن الميدان هو الذي ستكون له الكلمة القول الفصل، وأن المعركة لن يحسمها في نهاية المطاف إلا الصمود العسكري لفصائل المقاومة الفلسطينية من ناحية، والصمود السياسي والأخلاقي والمعنوي للشعب الفلسطيني من ناحية أخرى.
هذا الصمود وحده كفيل بضمان التفاف أحرار العالم كله وشرفائه حول القضية الفلسطينية، وبالتالي أرجح أن تفشل المحاولات الإسرائيلية الرامية إلى ابتزاز مصر عبر التلويح باجتياح رفح،
وأن تفشل في الوقت نفسه المحاولات الأميركية الرامية إلى ابتزاز الدول العربية عبر التلويح بصفقة مع السعودية، فالصمود هو مفتاح النصر الذي نأمل أن يكون قريباً بإذن الله.