ملفت بل مبهر منظر المظاهرات الطلابية التي اجتاحت الجامعات الأمريكية في موجة تعيد ذكريات مظاهرات سابقة ضد الحرب الأمريكية في فيتنام عام 1968 وضد العدوان الأمريكي على العراق عام 1991، هي مظاهرات أعادت قدرا من التوازن في الرأي العام الغربي الذي أصبح مرعى لأفكار اليمين المتطرف الأكثر انحيازا للمشروع الصهيوني بحكم خلفياته المسيحية الصهيونية المقتنعة بضرورة انتصار إسرائيل كمقدمة لعودة المسيح إلى الأرض ليحكمها ألف سنة جديدة.
الهزات الارتدادية لطوفان الأقصى وصلت إذن إلى قلب قيادة النظام الدولي، وعقر دار الداعم الأبرز للمشروع الصهيوني والعدوان الإجرامي، ولذا كانت الصدمة التي قادت إلى الغشومية في مواجهة مظاهرات الطلاب، واستخدام أساليب القوى الأمنية للعالم الثالث ضد الطلاب والأساتذة، وحتى الفلاسفة، وتابعنا استخدام الشرطة للصواعق الكهربية ضد المتظاهرين، كما شاهدنا مظهر الخيول التي تقتحم الجامعة لفض مظاهرة أو اعتصام في مشهد يعيد للأذهان معركة الجمل في ميدان التحرير إبان ثورة يناير 2011، كلها مشاهد تحرك الغضب المكتوم في نفوس الطلاب المصريين الذين يحتفظون بتاريخ ذاخر في دعم القضية الفلسطينية.
القوة الغاشمة هي التي تمنع المصريين وفي القلب منهم طلاب الجامعات من التظاهر دعما لغزة ومقاومتها، والفرصة الوحيدة التي سمح فيها النظام بالتظاهر ضد العدوان في 20 أكتوبر تشرين أول الماضي أي بعد أسبوعين فقط من العدوان شهدت حضورا كبيرا في ميدان التحرير غلب عليه العنصر الشبابي والطلابي، ومنذ تلك اللحظة منع النظام المصري التظاهر رغم أنه كان يمكنه استثماره لممارسة ضغوط على الجانب الإسرائيلي لمواجهة خطر الهجير، وحين احتضنت سلالم نقابة الصحفيين مظاهرات محدودة العدد عمد النظام إلى منعها مستخدما القوة الخشنة أيضا بالقبض على أبرز رموزها ( وإن أفرج عنهم في اليوم التالي منعا لمزيد من التصعيد)، لكن من الواضح أنه قرر عدم السماح بتكرار تلك المظاهرات مجددا، وليس معروفا كيف ستعامل نقابة الصحفيين مع الموقف.
لطلاب مصر تاريخ حافل في التظاهر سواء من أجل قضايا محلية أو قضايا خارجية وعلى رأسها القضية الفلسطينية، ومن مشاركة الطلاب في ثورة 1919، إلى مظاهراتهم عام 1946 التي لم يجد النظام طريقا لوقفها سوى بفتح كوبري عباس في محافظة الجيزة ليتساقط الطلاب منه في مياه النيل، ثم مظاهرات الطلبة الشهيرة عام 1968 احتجاجا على الهزيمة ومطالبة بمحاكمة المتسببين فيها، وهي المظاهرات التي دفعت الرئيس عبد الناصر إلى مقابلتهم وتلبية طلبهم بإعادة محاكمة قادة سلاح الطيران، إلى مظاهرات الطلاب عام 1972 لمطالبة الرئيس السادات بالحرب لتحرير الأرض المحتلة، وقد خرجت المظاهرات من جامعات القاهرة وعين شمس والأزهر والتقت جميعها في ميدان التحرير لتضطر السلطة لمقابلة وفد منهم في البرلمان وتطمئنهم على الاستعدادات الجارية للحرب.
كانت حقب السبعينات والثمانينات وحتى التسعينات هي العصر الذهبي للحراك الطلابي المصري، وهنا نتذكر المشاركة الطلابية الواسعة في انتفاضة الخبز في يناير 1977، ثم مظاهرات الطلاب ضد زيارة السادات للقدس وتوقيع معاهدة السلام، وقد تعددت المظاهرات الرافضة للتطبيع بعد ذلك.
لا يمكن أبدا أن ننسى المظاهرات الحاشدة ضد العدوان الأمريكي على العراق مطلع العام 1991، ثم ضد الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، كما لا ننسى المظاهرات الداعمة للانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، والثانية عام 2000 (التي استشهد فيها محمد الدرة) وقد اتسعت المظاهرات فيها لتشمل طلاب المراحل الثانوية والإعدادية وحتى الابتدائية إلى جانب طلاب الجامعة، وصولا إلى المظاهرات المنددة باجتياح غزة عام 2008، وبعدها عام 2012.
وعقب الانقلاب العسكري في يوليو 2013 ظلت الجامعات زاخرة بالتظاهرات الطلابية، والتي التحمت بالمظاهرات الأخرى في الشوارع والميادين، لكن النظام المصري تمكن عبر القمع الأمني الشديد من إسكات الحركة الطلابية، وعادت الأجهزة الأمنية لإدارة الجامعات سواء في انتخابات الاتحادات الطلابية أو اختيار عمداء ورؤساء الجامعات بعد أن كانت بالانتخاب الحر، واضطر الكثير من الطلاب النشطين إلى ترك الدراسة ومغادرة مصر هربا من الملاحقات الأمنية، وبذلك فقدت الجامعة تلك العناصر النشطة التي كانت تحافظ على ارتباطها بالجامعة لبعض الوقت بعد تخرجها لتنقل خبرتها إلى أجيال جديدة.
رغم الإجراءات الأمنية القاسية إلا أن الطلاب هم أكثر الفئات تأثرا بالأحداث، وبالتالي فإن طوفان المظاهرات الأمريكية والذي انتقل إلى الجامعات الأوربية حتما سيجد له صدى في مصر، خاصة بعد دعوة الاتحاد العام لطلاب تونس للتظاهر رفضا للعدوان، لقد كان جزءا أساسيا من محركات ثورة يناير هو غيرة الشباب المصري من الشباب التونسي الذي نجح في الإطاحة ببن علي في أيام معدودات، ولن يكون الطلاب المصريين أقل حماسا في دعم غزة من الطلاب الأمريكيين والأوربيين