الديكتاتورية في مصر الحديثة ذات طابع بنيوي، ديكتاتورية كامنة في بنية الدولة ذاتها، في حدود سلطتها، ثم في حدود وظيفتها، ثم في عملية خلقها وتشكيلها،
ثم في علاقتها بالشعب ونظرتها له، ثم في كم وكيف المزايا والامتيازات الأدبية والمادية التي يحصل عليها، وينتفع بها- بحق أو بغير حق- شاغلو الوظائف السيادية والبيروقراطية والأمنية في هذه الدولة
من قمتها العليا الضيقة، حتى قاعدتها الواسعة، هذه المزايا والامتيازات، تجعل من فكرة الدولة سبوبة منتجة ومثمرة، تكفل لمن يشغلون مواقع المسئولية فيها- كبرت أو صغرت- حياة رغيدة فخيمة بينها وبين حياة الشعب فجوة عظمى،
وبون واسع وفواصل حادة، عالمان مختلفان بينهما برزخ لا يبغيان: رفاهية طبقة الحكام، وبؤس طبقة المحكومين. وكل وظيفة طبقة المحكومين الواسعة العريضة هي تمويل وتموين مصادر العز والرفاهية والوجاهة والمنعة لطبقة الحكام الضيقة المحدودة، الدولة المصرية الحديثة،
هي جهاز ضبط وتنظيم وقسر وقهر، يكفل أن يؤدي الشعب مهمته التاريخية في خدمة رفاهة الحكام، حتى لو أدى ذلك إلى اعتصار الشعب وامتصاص روح الحياة فيه. تسخير جمهرة الشعب في راحة عصبة الحكم والسيادة والأمن والإدارة، هو المعنى الكافي والوافي؛
لتعريف طبيعة وواقع الدولة الحديثة، منذ تشكلت حول الجيش الحديث على يد محمد علي باشا، 1824 م حتى وقت كتابة هذه السطور في ربيع 2024 م.
هذه الدولة كانت وما زالت- مشغولة بأمرين:
1 -إحكام السيطرة المطلقة على الشعب مع احتكار تمثيله، والحديث عنه، وباسمه في الداخل والخارج، فهي تأكله، ثم تبتلعه، ثم تهضمه، ثم تمتصه؛ فلا يُرى إلا فيها، ومن خلالها ومن عدستها، وحسب تصويرها، ولا يُرى مستقل عنها ذاتي الوجود، تجتهد في حرمانه من أمرين: تنظيم نفسه في كيانات اجتماعية وسياسية طوعية،
وأهلية مستقلة عن أصابع البيروقراطية السيادية والأمنية والإدارية، ثم حرمانه من التعبير عن نفسه، سواء في شكل أفكار أو مبادرات أو رؤية، لما ينبغي أن تكون عليه أولويات الدولة وشكل المجتمع وحدود سلطة الطرفين، هي باختصار شديد؛ تخشاه؛ لأنه في نظرها كائن غير عقلاني غير محسوب التصرف غير مأمون العواقب، ينقصه الرشد والنضج، ثم هي- في نهاية المطاف- تحتقره، وتستصغره، وتهون من شأنه، وتزدريه، يسكت عند القمع، ويخضع عند القهر، ويستنيم عند الفقر، ويصبر على الظلم، ويتكيف مع الضير، وتضرب المربوط منه؛ فيخاف السايب، فلا كينونة للشعب إلا مُدمجاً في الدولة ومُضمراً فيها..
2 – إقناع الشعب أن قهره فيه مصلحته، وأن قمعه فيه منفعته، وأن تجويعه، إنما تمليه الضرورات الوطنية العليا والمصالح القومية المعتبرة، هذا الإقناع عمل منظم، تقوم عليه كافة أجهزة الدولة، وتسهر عليه كافة قواها، ترقب أنفاس الشعب، وترصد حركاته، وتضع يدها على نبض قلبه، إقناع بالتصريح والتلميح، وبالقوة الصلبة،
واستعراضاتها المهيبة وبالقوة الناعمة بكافة تشكيلاتها من خطب الحاكم، حتى خطب رجال الدين، ومن أجهزة الفتوى الدينية إلى أجهزة الدعاية والترفيه والتسلية. ومثلما يقع على الشعب المهمة التاريخية؛ لتمويل رفاهية ورغد طبقة الحكام، فكذلك تقع على الشعب مهمة تمويل الآلة الضخمة التي تتفرغ؛ لتضليل عقله، وتزييف وعيه،
وتشويه فهمه، وطمس ضميره، وتلويث روحه جيلاً وراء جيل، وعلى مدار الساعة، عليه أن يتعاطى أكاذيب الوطنية والقومية والمفاخر، والإنجازات والريادة في رضا وتسليم، أو في غصب واستسلام فلا فرق، المهم هو أن يتعاطى كل مواطن نصيبه العادل من أكاذيب المجد القومي.
……………………………………………………
كل ما فعلته الدولة الحديثة هو أنها وحدت ومركزت، وشددت قبضة الاستبداد القديم، طورت وحدثت، وأعادت هيكلة ماكينة إنتاج المظالم، فأنتجت على مدار المائتي عام من 1824، حتى 2024م، وإلى أجل لا يعلمه إلا الله أشكالاً مستحدثة من الديكتاتوريات، تختلف في ظاهرها ومسمياتها، وتتفق في جوهرها ومضمونها،
وهو أن تكون الدولة سبوبة منتجة ومثمرة، ينتفع برغدها طبقة الحكام، ويتولى تمويلها طبقة المحكومين البؤساء، تقطع عنهم الحرية؛ لأنها تنطوي على تهديد للأمن القومي للبلاد، أي تهديد لتماسك الدولة وثباتها وأدائها لوظائفها، فإذا نجحت في قطع إمدادات الحرية، وضمنت أن الشعب في وضع لا يتمكن فيه من القيام بأي ردود أفعال مزعجة للدولة؛
فلا مانع- في هذه اللحظة- من أن تقطع عنه أي شيء، تقطع الرغيف إلا بأثمان مرتفعة، تقطع الغموس إلا لطبقات محدودة جداً، تقطع أساسيات الحياة مثل الكهرباء؛ لأغراض الإنارة المنزلية والتجارية ، عندما تنجح السلطة في قطع آخر إمدادات الحرية، وعندما تعلم أن الشعب تكيف مع القهر، حتى صار عادة عادية مستقرة، مثل كل معتاد في الحياة، عندها تمارس السلطة المطلقة عنفها وقوتها، دون حدود ولا قيود، فالشعب الذي لا يتململ في مجلسه، ولا يتقلب في منامه، ولا يضجر في سره، أو علنه هو غاية المراد من الدولة الحديثة.
فرح المصريون بولاية محمد علي باشا 1805م، وظنوا أن عهود الطغيان قد صارت إلى زوال، ولكنه كان من الدهاء، بحيث أحل الاستبداد الحديث، محل الاستبداد القديم، وظلت سلالته تعيد إنتاج هذه الاستبداد،
سواء على انفراد أو تحت الاحتلال البريطاني، وكانت فرحة المصريين عظيمة بآخر الحكام من سلالة الباشا، وهو الملك فاروق، وقد حكم خمسة عشر عاماً، لم تكن غير تمارين في ممارسة الاستبداد، ثم كانت الستة الأخيرة منها نزوعاً نحو الحكم المطلق، حتى انقلبت فرحة المصريين بقدومه 1937م إلى فرحة؛ بزوال حكمه 1952م، فلم يتطوع للدفاع عنه أحد بما في ذلك أقرب الناس له.
كذلك فرح المصريون بمجيء ضباط الجيش، وظنوا أن عهود المظالم قد انتهت، خاصة وأن هؤلاء الضباط من آباء وأمهات مصريون، فلا هم أتراك ولا شركس ولا ألبان ولا مستجلبين من القوقاز، ثم تكررت القصة، وإذا بصورة أكثر غلظة وقسوة وعنفاً وخشونة،
وإذا كان من المفهوم أن ينظر الحكام السابقون لعهود الضباط، بازدراء وتهوين واستصغار إلى الشعب المصري، باعتباره مجرد مجتمع فلاحين قرويين خانعين خاضعين، يصلح لهم الكرباج، ويليق بهم الاستعباد، فإن المستغرب أن تتواصل نظرة الازدراء للشعب في ظل الديكتاتوريات، التي توالى عليها رؤساء قادمون من صفوف ضباط الجيش من المصريين أماً وأباً، ازدراء من نوع جديد، ليس باعتبار المصريين مجرد فلاحين، يصلح لهم الكرباج،
ولكن باعتبار المصريين جمهرة من حشود أقرب، ما تكون للقطعان يسهل- بالإعلام الموجه والدعاية المكثفة، ومن ورائها القبضة الحديدية كامنة أو ظاهرة- يسهل تشكيل وعيه وتزييف إرادته وإيهامه،
أن له دوراً، وأنه صاحب كلمة، وأنه مصدر السلطة، وسيد البلد بحزمة مصطنعة من: دساتير يعدلها الحكام، حسب مطامحهم السلطوية الفردية، استفتاءات ثم انتخابات رئاسية معلومة النتائج مسبقاً مرسومة على رغبة الحاكم ويتم هندستها في مكتبه وبرضاه ووفق رغبته وهواه وكل دور الشعب هو تمويل هذه الاستفتاءات والانتخابات من خزائن المال العام أي من جيب الشعب وعرقه ودمه،
هذا طبع مستقر في كافة ديكتاتوريات ضباط الجيش بلا استثناء واحد. ازدراء دائم من الحكام للشعب في كافة عهود الدولة الحديثة من عهود الباشا وسلالته، حنى عهود الرؤساء من ضباط الجيش الذين في شهادات ميلادهم، أنهم مولودون لأبوين مصريين من فقراء المصريين.
نعود للسؤال: كم عمر الديكتاتورية؟
……………………………………………………………..
1 – غير صحيح أن الديكتاتورية تدوم؛ لأن الشعب المصري خاضع خانع جبان، يخاف ولا يختشي وينضرب فيه السايب؛ فيرتدع المربوط، هذا قول باطل، هذا إفك محض، هذا بهتان عظيم، هذا من إفرازات الدعايات الديكتاتورية؛ لتبرير جرائمها.
2 – الصحيح هو أن الشعب المصري سبيكة إنسانية بالغة التركيب والتعقيد، وغائر العمق وغير سهل الفهم السطحي المباشر: فهو شعب طويل الصبر، لكنه في اللحظة ذاتها قريب الانفجار، هو شعب يجيد التكيف مع الواقع، لكنه في اللحظة ذاتها تواق للتحرر من رهن الواقع الظالم وأسره، هو شديد الحذر، لكنه في الوقت ذاته مقدام في وجه الخطر، هو شعب كثير الحسابات، لكنه عند نقطة معينة مُغامر، يقتحم المجهول ولا يبالي.
3 – مثلما أن التاريخ المصري الحديث هو تاريخ الدولة الديكتاتورية، التي تزدري الشعب، إلا أنه في الوقت ذاته- على مدار مائتي عام- تاريخ شعب ثائر مناضل في سبيل حريته وإنسانيته وعزته وكرامته، لم يشيد الشعب المصري حضوره الرائد والقائد والملهم في العالمين العربي والإسلامي، وهو شعب خاضع كسول مستسلم، هذا غير صحيح، الشعب المصذ
ري- يمارس ثوريته في كل أشكالها- رغم وضاعة السلطة، وعدم نزاهة الدولة، هو ينجز ما يثبت به وجوده في دفاتر التاريخ، مهما تكن سوءات الحكم وانحرافاته.
4 – عيب عيوب الشعب المصري ليس الجبن والخضوع وقبول الهوان، والتكيف مع المذلة اليومية من عهد إلى عهد، فهو ليس كذلك على الإطلاق، لكن عيب عيوب الشعب المصري هو التشرذم والانقسام، وعدم التمرين والتمرس على ممارسة الاختلاف، دون أن يتحول الاختلاف إلى قطيعة،
ثم انقسام، ثم تناحر ثم تشرذم ثم ضعف، ثم يكون هذا الضعف هو المناخ المناسب؛ لتأسيس ديكتاتورية وراء ديكتاتورية، فكلما أفلت ديكتاتورية حلت محلها ديكتاتورية أسخم منها وأضل.
الشعب المصري لم يتلق تربية سياسية حديثة كافية في مادة التوافق على خطوط عريضة رغم الاختلاف الفكري والديني والسياسي، الشعب المصري يفتقد التدريب على مهارات التوافق على نقاط مشتركة، وتحديد نقاط الاختلاف وتجنيبها واحترامها، وعدم اعتبارها حائلاً مانعاً ضد التعاون،
فيما بينهم على الأولويات الوطنية العامة. غياب هذه التربية يخلق الشقوق التي ينبت فيها الاستبداد، ثم تتأسس فيها الديكتاتورية، ثم يرتع فيها الطغيان، حيث تكون المعادلة واضحة: سلطة عاتية قاسية متماسكة صلبة موحدة، في مواجهة شعب مفكوك غير مترابط غير متبلور غير ذي صفة سياسية، وغير ذي هيئة واضحة الملامح ظاهرة المعالم.
5 – كافة الديكتاتوريات الحديثة تأسست في لحظات، كانت فيها حيوية سياسية هائلة وعظيمة على المستوى الشعبي، لكن هذه الوحدة كانت لا تلبث، أن تزول سريعاً، ثم يحل محلها الانقسام والشقاق، ومن ثم تتمكن الديكتاتورية من رقاب الشعب رقبة وراء رقبة، ثم تعلق السيف على الجدار في مكان ظاهر؛
فيرعوي الجميع وتستريح. هكذا تمكنت ديكتاتورية الجد الأكبر محمد علي، باشا في لحظة انقسام، وهكذا تمكنت آخر ديكتاتوريات سلالته- الملك- فاروق- في لحظة انقسام، وهكذا تمكنت ديكتاتوريات ضباط الجيش في لحظات انقسام، وعندما كان انقسام المصريين قد بلغ ذروته الأعلى في أعقاب 25 يناير 2011 م، جاءت ديكتاتورية ما بعد 30 يونيو 2013 م؛ لتسجل أعلى مستويات الديكتاتورية في تاريخ مصر الحديثة والمعاصرة.
………………………………………………
لا توجد شعوب جبانة وشعوب حرة، لكن توجد شعوب لديها خبرة في تجميع قوتها ووحدتها في مواجهة الظلم؛ فتنتصر عليه وتردعه وتصده على أعقابه، وشعوب أخرى مبتدئة في النضال السياسي الحديث، لا تعرف كيف تتجاوز الاختلافات، وتتوافق على الأولويات الجامعة التي هي ليست محل اختلاف.
الديكتاتورية مثلها مثل الاستعمار، تتشابهان في نقطة جوهرية وهي: أن كلاً منهما لا يضمن الدوام والاستمرار والعمار إلا في مناخ، تتفتت ثم تتشتت، ثم تتبعثر ثم تتبخر فيه قدرات الشعوب، وإرادتها وإمكاناتها،
ودرس التاريخ هو: عندما تأتلف الشعوب، وتتوحد صفوفها، فإن نضالها من أجل الحرية والعدالة والمساواة والكرامة الإنسانية يشق طريقه على المسار الصحيح، ويصل غايته في الأجل المقدور، لكل من سعى للحرية سعيها، وهو مؤمن أن الحرية أم الفضائل الإنسانية، وإذا غابت الحرية فقد الإنسان كل شيء من الرغيف والغموس، حتى الغذاء والدواء والكهرباء.