الكاتب ماجد مندور: مصر في عهد السيسي، نوع جديد من الاستبداد
يُعد كتاب مصر في عهد السيسي: أمة على حافة الهاوية، الذي نُشر بعد مرور 13 عاماً على اندلاع الثورة المصرية، من أوائل الكتب التي قدمت تحليلاً شاملاً لنظام السيسي.
يرى مندور، وهو محلل سياسي مصري، أن نظام السيسي لا يمثل استعادة للوضع القائم قبل عام 2011، بل هو بالأحرى نظام ديكتاتوري عسكري مباشر بدون وساطة أكثر وحشية مع عدم وجود توازن مدني.
أجرينا مقابلة مع ماجد مندور لمناقشة خصوصية النظام المصري الحالي وكيف أنه يستمد سياساته من الوصفات الاستبدادية القديمة.
الفرضية الرئيسية التي يطرحها كتابك هي أن نظام السيسي لم يسبق له مثيل، وأنه وحش جديد تماماً. ما الذي يجعلك تعتقد ذلك؟
ماجد مندور: الهدف الذي أردت تحقيقه من خلال الكتاب هو توضيح كيف أن نظام السيسي مختلف تماماً عن كل ما كان موجوداً من قبل.
فهو ليس استعادة لحكم مبارك الاستبدادي، على سبيل المثال، بل هو شيء جديد وخطير للغاية.
إذ إنه أول نظام ديكتاتوري عسكري مباشر بدون وساطة نشهده بمستوى غير مسبوق من القمع والعنف السياسي.
في عام 2011، لم يدرك الناس طبيعة النظام ومع من يتعاملون.
وكانت الفكرة آنذاك أن رحيل مبارك يعني حل المشكلة.
وعلى المنوال نفسه، إذا تم حل الحزب الوطني الديمقراطي، ستكون الأمور على ما يرام.
ومن موقعي الآن، أرى أنها كانت طريقة ساذجة للنظر إلى الوضع.
ولم يكن هناك فهم لبنية النظام، وكيفية عمله، ومن هم أصحاب المصلحة، ولماذا انهار بهذه السرعة.
وكان هناك سوء فهم جسيم لدور الجيش، وكيف أنه يُمثل التهديد الأخطر للعملية الديمقراطية، وليس الإسلاميين.
لقد كان هناك إخفاقاً جماعياً من جميع الأطراف، بما في ذلك الجيش. وكان هناك أفق ضيق للغاية في فهم ما ستكون عليه مصلحته.
لذلك، بدلاً من الانتقال على الأقل إلى شكل محدود من الديمقراطية يمكن إدارتها على النحو الذي من شأنه أن يحافظ على المصالح المؤسسية للجيش، اختارت المؤسسة العسكرية أن تمضي قدماً إلى أقصى حد في عام 2013، مما وضعهم في موقف بالغ الصعوبة.
لقد عززوا سلطتهم لدرجة أنهم ليس لديهم طريقة لإدارة المعارضة، ولا مرونة، ولا حزب مدني حاكم، ولا طريقة لإدارة السخط الشعبي – لا أقصد بشكل ديمقراطي، هذا ليس السؤال هنا، ولكن بطريقة أكثر اعتدالاً، من أجل تجنب حدوث انهيار عنيف.
وإذا استمرت الأمور على ما هي عليه، فإننا نتجه نحو سيناريو لا يختلف كثيراً عما حدث في ليبيا أو سوريا أو اليمن، ليس بالضرورة حدوث حرب أهلية شاملة، ولكن يظهر بوضوح قمع جماعي على نطاق لم نشهده من قبل، أكثر مما نعاني منه الآن.
إذ إن العوامل مهيأة لحدوث سيناريو مظلم للغاية إذا لم تتغير الأمور بشكل جذري.
الجزء الصعب هو أن النظام بنى هيكلاً أغلق الطريق أمام فرصة الإصلاح الذي قادته النخبة.
بيد أن المرونة قد اختفت تقريباً في مواجهة هذه الرغبة الجامحة في ضمان أن تكون كل السلطة (السياسية والاقتصادية والاجتماعية) تتركّز في يد المؤسسة العسكرية.
فقد تزامن إصدار الكتاب مع واحدة من أسوأ أزمات الديون التي شهدتها مصر منذ سنوات عديدة.
وهذا نتيجة مباشرة للنظام وهياكله السياسية. إنه ليس شيئاً يحدث بالصدفة. إنه نتيجة للسياسات الأساسية التي اتبعها النظام على مدى السنوات العشر الماضية.
في كتابك، ذكرت أن النظام، في صيف عام 2013، طلب دعم الشعب في مساعيه الرامية إلى قمع المعارضة بعنف، لماذا؟
ماجد مندور: دعا السيسي إلى تحرك شعبي لقمع المشاركة الشعبية في السياسة.
فقد كان يدعو الشعب إلى منحه “تفويض”، وهو تخويل له لقمع جماعة الإخوان المسلمين تحت غطاء أنها ليست مجرد منظمة إرهابية فحسب، بل كيان أجنبي ليس جزءاً من الوطن.
وهذا ما يقودني إلى البناء الفكري الذي نجح في إحيائه – والذي يتمثل في هذه الرؤية للوطن بوصفه كيان ديناميكي واحد حيث لدى الجميع فيه الرغبات والآراء نفسها، ولا يوجد اختلاف.
ويشير إلى نظرة السنة المحافظين من أبناء الطبقة المتوسطة حول الكيفية التي يجب أن تكون عليها الحياة.
وهذا يعني أن مصر ليس بها مكان للأقليات الدينية، والأقليات الجنسية، وأي وجهات نظر أخرى غير تلك النظرة تحديداً.
فقد استطاع تصوير جماعة الإخوان على أنها طائفة متطرفة باستخدام لغة دينية وقومية.
فقد كانت الفكرة هي قمع جماعة الإخوان، ولكن ما كان وراء ذلك هو استعادة فكرة الاستقرار والحياة الطبيعية، وهي قمع جميع الأصوات المعارضة. إنها الرسالة الخفية اللاشعورية الكامنة وراء ما كان يدعو إليه.
ولكن مما يدعو للأسف أن النخبة العلمانية الليبرالية اليسارية، ليس كل هذه النخبة، ولكن الغالبية العظمى منها، اتبعت ذلك.
فقد كانوا يعتقدون أن الإسلاميين أكثر خطورة من العسكريين على العملية الديمقراطية، وهو أمر غير منطقي. وساعدوا في قمع قواعدهم الشعبية.
لقد كان قراراً جماعياً، وليس عسكرياً فقط.
إذ إن هذا الشكل من أشكال الديكتاتورية لا يمكن تأسيسه دون وجود شكل من أشكال الموافقة الشعبية.
وهذا ما يجعل هذه الدكتاتورية فريدة ومن الصعب للغاية تغييرها.
في موجة القمع في البداية، التي قُتل فيها أكثر من ألف شخص (ما زلنا لا نعرف كم عددهم بالضبط)، لم تفعل قوات الأمن ذلك من دون مشاركة شعبية وتفويض.
وكانت هذه هي القاعدة التي استند عليها النظام.
ثم انتقلوا لقمع أي شكل من أشكال المعارضة بفاعلية وإغلاق المجال العام تماماً.
وهذه الأمور لم تكن أفعالاً قائمة دون غطاء شعبي.
وعندما أصبح واضحاً أن الجيش جاء ليبقى في سدة الحكم، وأننا بصدد حكم دكتاتوري، وأنه سيحكم قبضته على السلطة بشكل كامل، وأنه سيجعل الاقتصاد في حالة يرثى لها، كان الأوان قد فات.
إذاً، فقد تمكن النظام من جعل غالبية المصريين متواطئين في القمع الذي يمارسه، بطريقة ما، وأي شخص يحتج اليوم يُمكن لومه على الدماء التي لطخت يديه في عام 2013، والقول له: “تذكر، أنت من طلب ذلك”.
ماجد مندور: أنت محق تماماً.
ما حاولت أن أبحث فيه في الكتاب هو أن القمع لم يكن بقيادة الدولة. إنه ما أسميه القمع المجتمعي.
إذ إنه لم يقتصر فحسب على القمع الذي مارسته الأجهزة الأمنية، بل كان بمشاركة شعبية.
وحتى هذه اللحظة، وبينما نحن نتحدث، ليس هناك اتفاق واضح على ما حدث تحديداً في صيف عام 2013.
هل كانت مذبحة، أم كانت كلفة حتمية؟ هل كان شيئاً قام به النظام لخلق شعور بالاستقطاب ولكي يتمكن الجيش من القفز على السلطة وإحكام قبضته عليها؟ لقد كانت لحظة تأسيسية بالنسبة للنظام لم تتمكن المعارضة حتى الآن من تجاوزها، وخلق إجماع على أن ما حدث لم يكن خاطئاً أخلاقياً فحسب، بل كان أيضاً كارثة سياسية.
لم يكن هناك تفكير في أنهم كانوا أشخاصاً أبرياء، مئات وربما الآلاف، قتلوا في شوارع المدن الكبرى في البلاد. والأشخاص الذين أيدوا هذا فتحوا الطريق أمام دكتاتورية عسكرية لم تشهدها مصر من قبل.
أنت تطلب من الناس أن يستيقظوا وينظروا إلى أنفسهم في المرآة ويقولوا بالمناسبة؛ لقد تلطخت أيدينا بالدماء لأننا دعمنا هذا بطريقة ما، وقمعنا الأشخاص الذين لم يؤيدوا هذا، والآن انظروا إلى أين وصلت بنا الأمور.
فضلاً عن أن النظام تعامل مع قاعدته بازدراء واضح للغاية، والآن ينبغي لهذا الانهيار الاقتصادي أن يؤدي إلى بعض التفكير العميق والنقد الذاتي.
لست متأكداً مما إذا كان ذلك سيحدث. لكن يمكن أن يكون ذلك بداية انهيار هذه الأسطورة.
فقد وعد السيسي بفاشية جديدة جيدة، وعودة إلى المجد الوطني، وهذا لن يحدث.
والآن بات ينهار جزء كبير من هذه السردية.
السؤال هو ما إذا كانت ستنهار بقوة كافية بحيث لا تصبح جماعة الإخوان كياناً أجنبياً؛ فعلى الرغم من أننا قد لا نحبهم ونختلف معهم سياسياً، فإنهم يمثلون جزءاً من الحياة السياسية المصرية.
إنهم ليس شيئاً يمكنك أو يجب عليك قمعه، إنهم يمثلون قوة سياسية تختلف معها.
وهذا يُعد موقفاً صعباً للغاية بالنسبة لأنصار النظام.
إذ إن الوهم بدأ يتداعى شيئاً فشيئاً.
أحد الأشياء التي لفتت انتباهي أثناء قراءة كتابك هو التشابه في الخطاب بين السيسي وأشخاص مثل قيس سعيّد، عندما يتعلق الأمر باستخدام لغة الاستقطاب وتحويل المعارضين السياسيين إلى خونة للوطن. فقد كان استخدام تعبير خونة الوطن سمة أساسية في الخطاب الاستبدادي في العالم العربي، وهو ما يكشف لنا الكثير عن طبيعة النظام السياسي الذي تهدف إلى تأسيسه هذه الدول (وهو نظام قائم على الشك والارتياب). لماذا هذا الخطاب الذي يتسم بالشوفينية والقائم على فكرة الضعف (من قبيل أن “الدولة مهددة بانهيار وشيك”) قوياً إلى هذا الحد؟
ماجد مندور: أتتبع هذا في كتابي بالعودة إلى الحقبة الناصرية. وهو ليس شيئاً ابتدعه عبد الناصر.
فقد كانت تلك التيارات موجودة عندما تولى السلطة، وعندما قال إن الديمقراطية لا تصلح، ونحن بحاجة إلى مشروع وطني بقيادة الجيش.
وفي الحالة المصرية، ترسخت هذه الرؤية على مدى عقود.
وتتمثل في “نحن ضد العالم”.
وقد اتخذت أشكالاً مختلفة، بما في ذلك الأشكال الدينية.
إنها رؤية لماهية الهوية المصرية وكيف بُنيت.
على سبيل المثال، لقد نشأت في مصر وغادرتها عندما كنت في الـ23 أو 24 من عمري.
وخلال معظم حياتي، لم أكن أعلم أن هناك أقليات أخرى، وأن هناك أشخاصاً لا يفكرون مثلي.
وهذا أمر راسخ بعمق؛ إنه يُرسخ باستمرار في ذهنك. هناك هذه الفكرة، على سبيل المثال، أن الدولة المصرية موجودة منذ سبعة آلاف سنة. إنها فكرة سخيفة.
إنها ليست حتى موجودة منذ مائتي عام. إذ إن الهوية الوطنية المصرية جديدة نسبياً. بشكل عام، من الشائع للغاية التفكير أن تعتقد أن الجميع مثلك وأنه لا توجد اختلافات ولا صراعات اجتماعية يجب التعامل معها.
نظراً إلى أن الأفكار حول الصراع الطبقي والعملية الديمقراطية لمحاولة التعامل مع الفئات الاجتماعية المختلفة تتسم بأنها مربكة للغاية بالنسبة للشعوب التي وافقت على التضحية بالحرية في مقابل تحقيق مكاسب اقتصادية وأمنية.
إنه أمر متأصل بعمق للغاية.
ولهذا السبب كانت الفترة من عام 2011 إلى عام 2013 مربكة ومزعجة للغاية.
فجأة، أصبح هناك نسويات، ومجتمعات مثليين، وأقليات عرقية تطالب بالاعتراف بها، وأقليات دينية تطالب بمزيد من الحقوق.
كل هذه الأمور تسببت في إرباك مجموعة مضطهدة بالفعل تشعر بأنها متفوقة على المجموعة المحيطة.
ومن الصعب تغيير هذا الرأي وهذه العقلية الراسخة بعمق حول ماهيتنا كوطن.
ولذا، كان من المريح للغاية عندما ظهر السيسي وقال: “انظروا، سأفعل كل هذه الأشياء المروعة.
دعوني أفعلها، وستنتهي كل هذه المشاكل.
ولن تضطروا بعدها إلى القلق بشأن حقوق النسويات، ومجتمعات المثليين، والأقليات الدينية. أي شيء لا يعجبكم وتعارضونه، لن تسمعوا عنه بعد الآن، وأعدكم بالرخاء الاقتصادي”.
الكثير من الناس صدقوا هذه الوعود. وقد كان الانتماء إلى جماعة الإخوان هو الوسم الذي أُطلق على العديد من هؤلاء الأشخاص. فقد كانت وسيلة لقمع جميع الاختلافات والصراعات الاجتماعية المفترضة.
وبدلاً من تشجيع ذلك بوصفه وسيلة للتوسط في تلك الخلافات، كان الحل بالنسبة للكثيرين هو قمعها.
على سبيل المثال، في عام 2011، فوجئ الناس بأن السلفيين كانوا يمثلون تيار سياسي قوي.
هل كان الجميع في غفلة خلال العقدين الماضيين؟ إنها هذه الرؤية حول وجود شمولي من الطبقة الوسطى السنية المعتدلة هي المهيمنة للغاية في مصر.
من أوجه الشبه الأخرى حقيقة أن جزءاً كبيراً من المعارضة العلمانية تحالفت مع الدولة في ظل الانقلاب ضد الإسلاميين، لماذا يحدث هذا دائماً؟
ماجد مندور: إنه سؤال جيد للغاية، ولكن من الصعب جداً الإجابة عليه.
ولا أريد أن أكون سطحياً أيضاً.
أعتقد أن ذلك كان نتيجة فهماً ساذجاً لما سيفعله الجيش. ولم يكن الانقلاب مفاجأة.
فقد كانت النخبة العلمانية على علم بذلك، وكانت جماعة الإخوان على علم بذلك إلى حد ما. بيد أنهم لم يستطيعوا مساعدة أنفسهم. إنه فشل جماعي للإسلاميين والنخب العلمانية على حد سواء.
فقد فشلت النخب العلمانية في فهم ديناميات الجيش ونواياه، وكانت هناك هذه الفكرة الساذجة بأنهم سيأتون ويقومون بانقلاب، وأن الديمقراطية ستعود بعد أن قتلوا آلاف الأشخاص.
وأن حظر أكبر حزب في البلاد من شأنه أن يمنحنا بطريقة أو بأخرى وجوداً صحياً وديمقراطياً.
ثمة أيضاً، على الأقل من وجهة نظري، صراع واضح وبارز للغاية: المناطق الحضرية مقابل المناطق الريفية.
إذ إن جماعة الإخوان تتمتع بقاعدة محافظة قوية، بينما النخب العلمانية، التي تتمركز في المدن بشكل رئيسي، تحتقرهم.
ويرون أنه من غير المحتمل أن يصبح أستاذ جامعي من بلدة ريفية لا يتقن اللغة الإنجليزية بطلاقة رئيساً للبلاد.
في حين يمكن أن يصير مصدر فخر لنا أن يكون لدينا نظام ديمقراطي يمكن فيه لشخص من هذه الخلفية الاجتماعية أن يصبح رئيساً.
ويتعلق جزء من ذلك بالطبقة الاجتماعية، على الرغم من أن جماعة الإخوان تتخلل مختلف الطبقات.
وتضم أعضاء من الطبقات العليا والمتوسطة والدنيا، وهذه فرضية لا أستطيع إثباتها.
إذ إن هناك رأي مفاده أن مؤيدي الإخوان هم من الفقراء والطبقات الوسطى الدنيا.
أما الطبقة المتوسطة العليا التي تعيش في المناطق الحضرية، التي كانت في تلك المرحلة قوة سياسية مهمة نظراً إلى أنها كانت في صدارة الحركات الليبرالية و/أو اليسارية، فقد احتقرتهم أيضاً.
ثمة أيضاً عاملاً جغرافياً، وآخر أيديولوجياً.
وهو الرأي القائل بأن جماعة الإخوان رجعية، ومحافظة للغاية، ومحلية في طبيعتها للغاية مقارنة بالنخب التي كانت تركز على الغرب.
فقد كان هناك سوء تقدير كبير، وهو عدم إدراك أن الجيش أكثر خطورة بكثير مما يمكن أن تكون عليه جماعة الإخوان.
وهناك نقطة هامة أخرى، وهي أن جماعة الإخوان لم يدعموا قضيتهم بأنفسهم. لقد تصرفوا بطريقة خرقاء للغاية.
فقد أرادوا أن يفعلوا كل ما فعله الجيش لكنهم فشلوا فشلاً ذريعاً.
وحاولوا إحكام قبضتهم على السلطة ولكنهم فشلوا.
ولم يدركوا أن كونها حركة اجتماعية متعددة الطبقات يعني وجود مكونات متعددة.
لذا، كانوا يتخذون قرارات سياسية عشوائية للغاية.
وكان خطأهم الفادح هو الاعتقاد بأنهم كانوا بحاجة إلى استرضاء الجيش لتجنب المصير الذي عانوا منه في الخمسينيات.
وبمجرد أن يفعلوا ذلك، يمكنهم استرضاء قوات الأمن أيضاً. وبعد ذلك، يمكنهم التعامل مع اليساريين والليبراليين، ومنحهم سلطات صغيرة ومحدودة لأنهم ليسوا قوة سياسية متماسكة.
ولسوء الحظ، كانت هذه القناعات المناهضة للديمقراطية واسعة الانتشار في الطيف السياسي: الإسلاميين والعلمانيين واليساريين واليمينيين، وأياً كانت تسميتهم.
لم يكن هناك فهم أن جزءاً من العملية الديمقراطية هو “أنا لا أحبك، ولكن يمكننا أن نتقاسم المساحة نفسها، ويجب علينا أن نجد طريقة للعيش معاً”.
بيد أن هذا التفكير لم يكن موجوداً، وكان التهديد الحقيقي نابعاً من المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية، وليس من الإسلاميين.
لقد تصرف الإسلاميون على نحو مروع. لقد حاولوا قمع المطالبات بالمساءلة الديمقراطية، أو كانوا ببساطة سيئين للغاية في فعل ذلك، مما زاد الأمور سوءاً.
وأدى ذلك إلى حالة مستمرة من عدم الاستقرار، مما جعل تدخل الجيش موضع ترحيب من قبل الكثيرين.
فقد قال العديد من الناس: “نحن لا نريد أن نرى تلك الاحتجاجات اليومية والاشتباكات الأسبوعية بين الناس.
نحن نفضل أن يأتي الجيش ويعيد الاستقرار وينهي هذا الأمر تماماً”.
تتحدث عن وجود عقلية استبدادية عبر كافة الأطياف السياسية، هل يمكنك شرح هذا المفهوم بشكل أكثر تفصيلاً؟
ماجد مندور: المفهوم بسيط للغاية، الفيروس الذي ابتليت به القومية المصرية متغلغل في جميع المجالات.
النظرة الشوفينية هي أنني أمثل مصالح الشعب وأستطيع أن أتحدث نيابةً عنهم وحدي.
وأي شخص آخر إما مخدوع أو خائن أو خارج الوطن.
بالطبع، يختلف الأمر في درجاته، لكنه يتواجد بطريقة ما في معظم الفصائل السياسية في مصر، مما يعني أنه من السهل للغاية استبعاد الفصائل الأخرى.
الإخوان يعتقدون أنهم يتحدثون باسم المصريين الحقيقيين.
والجيش يفكر بالطريقة نفسها. واليساريون والعلمانيون يشاركون وجهة النظر نفسها، وهو أننا نمثل الوطن.
وبمجرد أن نعتقد أننا القوى القومية الحقيقية، يصبح من السهل للغاية استبعاد بعض المعارضين: مثل قمعهم، وقتلهم، وسجنهم. ولهذا السبب استطاع السيسي سجن 60 ألف شخص دون أن يطرف لأي شخص جفن.
كان الأمر عادياً.
لم يكن هناك أي رد فعل شعبي على الإطلاق.
في معرض حديثه عن الجزائر، يستخدم توماس سيريس تعبير “الحكم من خلال الأزمة”، وهي في الأساس الفكرة القائلة بأن الدولة ستقدم القليل للغاية وتهدد الشعب بعودة وضع أسوأ (في حالة الجزائر، الحرب الأهلية؛ وفي مصر وتونس، عودة الإسلاميين)، في كتابك تقول إن الدولة تحتاج إلى الاستقطاب المستمر. ما هي عواقب مثل هذا النمط من الحكم على المجتمع؟
ماجد مندور: إنها العقلية الاستبدادية.
وهي أن تعيش في ظل تهديد دائم بالانهيار، لكن في الوقت نفسه، أنت على استعداد لقبول جرعات كبيرة من القمع لمحاولة تجنب ما تتصور أنه المصير الأسوأ.
ويصبح هذا القمع معتاداً. ويُدمج في الحياة الطبيعية. فالاستبداد لا يصلح على المستوى ما وراء السياسي فحسب.
إذ لا يمكنك أن تعيش في ظل حكم استبدادي، وأن يكون لديك مكان عمل ديمقراطي أو ثقافة أسرية ديمقراطية.
كل شيء يتلازم معاً لضمان خضوع الجميع لهذا السرد في جميع المجالات.
فالأمر لا يقتصر على الحكام المستبدين من خلال الدولة فحسب، بل على المواطنين أيضاً؛ العائلة في المنزل، والمعلم في المدرسة، والمدير في العمل، إذ تتسم العقلية الاستبدادية بأنها لا مركزية، وإذا أصبحت هي السرد المقبول في جميع المجالات، فإن الاختلافات ستكون مرفوضة.
وأي آراء متعارضة بشكل عام مع السرد السائد تصبح تهديداً وجودياً ويجب قمعها من أجل مصلحة الجماعة.
وهذا لا يقتصر فقط على القضايا ما وراء السياسية.
فهي منتشرة في كل مكان. إذ تصبح وسيلة لضمان أن الجميع يفكر ويتكلم بالطريقة نفسها.
وإذا لم يفعلوا ذلك، فيجب ألا يعلنوا ذلك بصوت عالٍ.
إنها مثل الصدأ الذي ينخر في أساس الروح الديمقراطية التي يمكن أن تتطور من فهم أن الاختلافات ووجهات النظر المختلفة ليست بالأمر السيئ.
لقد نشأت في بيئة لا يُسمح لك فيها بالاختلاف مع والديك؛ ولا يُسمح لك بالاختلاف مع معلميك أو رئيسك في العمل. وإذا اختلفت مع ضابط شرطة، فلن تكون العواقب جيدة.
نحن نواجه دائماً أزمة وجودية تسمح للنخب والسلطة الحاكمة بعدم الوفاء بالتزاماتهم، وهذا مقبول في ظل غياب المساءلة الديمقراطية.
يمكنك أن تكون فاسداً قدر ما تشاء.
ويمكنك أن تفشل في الإدارة العامة وتسيء إدارة الاقتصاد إلى حد الانهيار، ولا توجد عواقب حقيقية لذلك، طالما يمكنك الحفاظ على فكرة أنه إذا غادرت السلطة، سيكون هناك إسلاميون وعناصر داعش يقطعون الأعناق ويقطعون رؤوس الأطفال.
لماذا يشير النظام باستمرار إلى خطر حدوث انهيار وشيك؟
ماجد مندور: النظام هو ديكتاتورية عسكرية تسيطر على اقتصاد الدولة ووسائل الإعلام، وهذا أمر معروف ولا يخفى على أحد.
لذا، لكي يتقبل الشعب ذلك، يجب أن يكون هناك منطق لحماية الدولة من الانهيار المستمر.
هناك دائماً مؤامرة, وهناك دائماً شخص ما يحاول تدمير الدولة وإحداث الفوضى.
وإذا اختفى ذلك فجأة، عندها ستختفي فجأة سردية الهيمنة والتفوق العسكري برمتها، لا سيما الآن بعد أن أصبح واضحاً أنهم أساءوا إدارة الاقتصاد مما أدى إلى عواقب وخيمة.
لماذا إذاً يجب أن تظلوا في السلطة حتى على الرغم من أنكم فشلتم في إدارة الاقتصاد بشكل جيد؟ على الأقل أنتم توفرون لنا الأمان، ولسنا مثل ليبيا أو سوريا أو العراق.
لذا، فهو منطق بسيط للغاية.
لقد أوضحت في الكتاب أن السيسي لم يكلف نفسه عناء تأسيس حزب لموازنة القوة العسكرية، والأمر نفسه ينطبق على قيس سعيّد، الذي لم يقم بإنشاء حزب. هل يمكننا القول إن الأزمة العالمية مع الأحزاب السياسية قد وصلت إلى حد جعل الأحزاب الواحدة غير مجدية في الأنظمة الاستبدادية؟
ماجد مندور: هذا ما يجعل السيسي فريداً من نوعه. فهو أحد معتنقي الاعتقاد الأيديولوجي بأن العسكر أرقى من أي مدني.
إذا كنت ضابطاً عسكرياً، ستؤدي أي عمل على نحو أفضل من أي مدني، حتى لو كان هذا المدني خبيراً.
وليس لديه رغبة في بناء حزب مدني.
وعلى الرغم من أنه كانت هناك بعض المحاولات لبناء كوادر من السياسيين الشباب المؤيدين للسيسي، لم يُمنحوا سلطة حقيقية على الإطلاق.
فقد كان يتبع سياسة عقد هذه المؤتمرات الشبابية الكبيرة للتحدث إليهم مباشرة.
لم تكن هناك أبداً محاولة مؤسسية لتأسيس حزب.
وهذه حقيقة.
إنه ليس نظام الحزب الواحد الذي يمكنك مقارنته بالاتحاد السوفيتي أو الصين. السيسي يعشق النموذج الصيني.
قبل فترة، كان يقول كيف تطورت الصين على الرغم من أنهم كانوا يموتون جوعاً، ولا بأس أن نتضور جوعاً نحن أيضاً الآن.
كان يشير إلى فترة حكم ماو. لم تكن نظرة جيدة. فهو لم يكن يرغب في القيام بذلك، والمؤسسة العسكرية لم ترغب في القيام بذلك.
إحدى الأسباب لعدم تأسيس حزب، هو أن كلاً من السيسي والجيش يعتقدا أن المدنيين كان لديهم الكثير من القوة في 2011.
ولم يكن تأسيس حزب جماهيري مدني أمراً وارداً على الإطلاق.
حتى نظام الحزب الواحد غير مقبول، وما يجعله كارثياً هو أنه يؤدي إلى موت الحياة السياسية. لا يوجد نظام حزب واحد يمكنك من خلاله التوسط في النزاعات الاجتماعية.
ليس لدى النظام أجنحة واضحة. إما يمين متطرف أو أكثر تطرفاً. لا أسميها أزمة في نظام الحزب الواحد.
فهذا ليس نظام الحزب الواحد. وبعد مضي عشر سنوات، لا يبدو أنه سيكون هناك حزب، لكن من يدري، ربما يحدث ذلك في وقت ما.
تتطرق في الكتاب إلى شرح أن النظام المصري الحالي بطريقة ما يحتجز نفسه كرهينة لأنه غير قادر على تقديم إصلاحات، كيف يُمكن ذلك؟
ماجد مندور: تُعد بنية النظام شيء جديد حقاً. للمرة الأولى، لا يوجد حزب سياسي مدني حاكم. هناك حزب في البرلمان يتمتع بالأغلبية، لكن لا يوجد دليل على أنه مسؤول عن وضع السياسات، وعندما يحدث ذلك، لا يوجد ثقل يوازن سلطة الجيش والأجهزة الأمنية.
والآن لدينا أزمة الديون كمثال أساسي للكيفية التي يعمل بها هذا النظام. فهناك أزمة، وهناك حاجة ماسة إلى الإصلاحات لتقليص نفوذ الجيش. وهذا يعني أن على السيسي أن يتخذ خطوات ضد قاعدته.
كان من الممكن أن يفعل ذلك لو كان لديه توازن مقابل يسمح له بتغيير موقف الجيش داخل النظام، لكن ليس لديه ذلك.
حتى لو استيقظ السيسي في الصباح وقال: “أريد تغيير السياسة بالكامل”. بمساعدة من؟ توجد حكومة مدنية بلا سلطة. ولا توجد قاعدة شعبية محتشدة يمكنه الاعتماد عليها؛ ولا توجد قوة مدنية، وحتى لو دعمته الشركات الكبرى، لا يوجد أحد قادر على موازنة المؤسسة العسكرية.
وهذا يعني أنه في حالة وجود أزمة مثل الأزمة الحالية، فإن الإصلاحات تكاد تكون معدومة.
وإذا حدثت انتفاضة جماهيرية شعبية، على افتراض حدوثها، فكيف يمكن للنظام التعامل معها؟ إذ لا توجد معارضة معتدلة ذات قاعدة قوية يمكن للنظام التفاوض معها.
لقد رحلت جماعة الإخوان. ولا يوجد نخبة مدنية معتدلة يمكنها بطريقة ما توجيه النظام بعيداً عن اتباع مسار كارثي.
فالنظام بات الآن عالقاً في مسار صعب للغاية يحول بينه وبين التغيير، حتى لو أراد السيسي ذلك. وتلك نقطة مهمة للغاية.
هناك رأي يقول إن المشكلة ليست في نظام السيسي، حتى لو استيقظ السيسي وقال: “أنا أستقيل من منصبي”، فالحقيقة هي أنها دكتاتورية عسكرية، بغض النظر عمن هو على رأس السلطة.
ما هي طريقة النظام في التفكير في أزمته الحالية؟
ماجد مندور: فيما يتعلق بالأزمة الاقتصادية، يستجيب النظام بوضع كل البيض في سلة واحدة، مما يعني أن مصر أكبر من أن تفشل.
المنطق السائد هو أنه إذا انهارت مصر، سيكون هناك عدم استقرار في المنطقة. وسيَعبر المهاجرون، إما الفلسطينيين أو السودانيين أو الأفارقة من جنوب الصحراء الكبرى.
وهذا الرأي يؤتي ثماره؛ إذ يبدو أن صندوق النقد الدولي الآن على استعداد لزيادة قيمة القرض، الذي كان مقدراً في الأصل بنحو 3 مليارات دولار.
لا نعرف القيمة الجديدة، لكن يبدو أنها كافية لتجنب التخلف عن السداد أو الحديث عن إعادة هيكلة الديون.
ويبدو أن هذا هو رهان النظام في الوقت الحالي. وفيما يتعلق بالوضع في غزة، فإن هذا النوع من الروابط هو أن مصر تحصل على الدعم، أو أن السيسي سيحاول الحصول على الدعم بسبب الوضع هناك.
ولا أعتقد أنه مترابط كما قد يعتقد الناس، لأن فكرة إسرائيل عن التطهير العرقي للفلسطينيين ودفعهم إلى سيناء تعيق مباشرة إحدى الضرورات الأيديولوجية للنظام، وهي القومية المصرية الشوفينية العميقة.
ففي نهاية المطاف، أحد الاتهامات التي وجهت إلى جماعة الإخوان هو أنها امتداد لحماس، وحماس امتداد لها. وكانت هناك شائعات بأن السيسي يخطط لتخصيص سيناء للفلسطينيين مقابل 8 مليارات لإقامة دولة لهم هناك.
وإذا كان قادراً على فتح الحدود والسماح بدخول اللاجئين الفلسطينيين بشكل جماعي، فسيكون من الصعب للغاية عليه التوفيق بين ذلك والسردية التي قامت عليها شرعيته برمتها.
وهذا أحد الأسباب العديدة التي تجعل النظام لا يسمح بحدوث ذلك.
فضلاً عن أن العلاقة مع الإسرائيليين تتعرض لضغوط كبيرة، لكنهم ما زالوا حلفاء مقربين.
ولنكن واضحين أن النظام لم يتخذ موقفاً عدائياً قوياً ضد إسرائيل رغم عدم موافقته على العملية وحجم الدمار.
ومن وجهة نظري، هذا هو المنطق السائد هنا.
ما رأيك في وضع مصر في ظل التطورات الجيوسياسية الحالية؟
ماجد مندور: لا أعتقد أن النظام سينهار إذا سمح للفلسطينيين بالدخول، لكنه سيكون في موقف صعب.
وعلينا أن نضع في اعتبارنا أن تسليم الجزيرتين أًعلن عنه لأول مرة في عام 2016 في ذروة شعبية النظام.
الآن، الوضع مختلف تماماً. إذ يواجه النظام الآن الكثير من الضغوط بسبب أزمة الديون. وهناك خوف من ردود الفعل الشعبية العنيفة.
عندما أعطى النظام الجزيرتين للسعوديين، كان هناك احتجاج شعبي ضده لأول مرة، وكانت هناك صراعات في القضاء.
حتى أن بعض النخب المؤيدة للنظام انتقدت ذلك.
وهذا الوضع مختلف تماماً. والنقطة الثانية هي أن النظام لم يربط جماعة الإخوان مباشرة بالسعوديين، ولكنه ربطها مباشرة بحماس.
وكانت هناك اتهامات بأن حماس مسؤولة عن التفجيرات في مصر.
إذا فتحت الحدود الآن وسمحت للفلسطينيين بالدخول، فإن ذلك سيدمر سردية النظام على المدى المتوسط والبعيد. والوضع مماثل، ولكن ليس تماماً. ففي حالة السعوديين، لم يكن أمامهم سوى القليل من الخيارات. لقد منحناك الكثير من المال، ونريد هذه الجزر الآن.
المصدر: (مبادرة الإصلاح العربي)