أكتب هذا المقال بعد أيام من ذكرى حدث عظيم، عزيز جدا على قلبي، حدث رغم ما سببه لي من آلام شخصية في وقتها إلا أنه خلف أيضًا ذكريات لن تُمحى من عقلي وقلبي وعقول وقلوب جيلي. وحتى أولئك الذين وقفوا من ذلك الحدث موقف العداء أو خافوا منه ولم يفهموه، فلا أعتقد أنهم سوف ينسونه بسهولة حتى بعدما توارى في ظل حدث آخر أكبر وأعظم، ربما هو الأعظم في تاريخ جيلنا حتى الآن.
ولأن مقالي هذا سيُنشر أثناء عيد الفطر، حيث يجب أن تُرسل التهاني ويُنشر التفاؤل، أردت أن يكون تحية لأولئك الذين صنعوا ذلك الحدث وآمنوا بما حاولنا تحقيقه من خلاله وتذكرة لمن نسى أو تناسى أو قرر المضى في حياته كأن شيئا لم يحدث، خوفا من عواقب الحلم ويأسًا من المحاولات المتكررة التي لم تحقق أهدافها حتى الآن.
وبالتأكيد قد أدرك المخاطبون بهذا المقال – الذي أرجو أن يرسلوه لبعضهم البعض كتحية لكل واحد منهم – الحدث الذي أتحدث عنه وعلموا أنه يوم إضراب السادس من أبريل عام 2008 الذي لا يمكنني أن ألخصه في بضعة سطور، ولن أحاول، ولكن أرى من الواجب على من عاصر تلك العاصفة، تلك اللحظة القاصمة في عمر الاستبداد الوطني، أن يتحدث عنها ليفهم من لم يفهمها بعد لماذا وكيف حدثت؟.
شخصيًا لم أكن حاضرا يومها لأحلل أحداث اليوم أو توابعه قصيرة المدى، فقد كنت مشغولا بمستقبلي الشخصي الذي يهدده دخولي للسجن لأول مرة في حياتي بسبب محاولتي المشاركة في المظاهرات التي كنت أحد المحرضين عليها في ميدان التحرير في ذلك اليوم. وحتى بعد خروجي من السجن ظللت لشهور بعيدا عن الاحتكاك بالمجال العام، محاولا الحفاظ على وظيفتي الجديدة التي تمكنت بمعجزة من الاستمرار فيها رغم سجني بعد أسبوع واحد من تسلم تلك الوظيفة. وبالتالي لن يمكنني – حتى لو حاولت – أن أناقش تفاصيل ما حدث خلال ذلك اليوم أو أن أرصد نتائج القرارات الحكومية العاجلة التي اتخذها النظام لاستيعاب الانتفاضة الشعبية المحلية المحلاوية ضده.
ولكن الأهم دومًا في تحليل أى حدث عظيم هو النتائج متوسطة وبعيدة المدى له. وبالطبع كان أهم نتيجة لذلك اليوم هو تبلور “التيار الثالث” في حركة سياسية وطنية ديمقراطية (والأهم من كل ذلك “شبابية”) هى حركة شباب السادس من أبريل. التي ورغم ما شاب تاريخها من أخطاء أو انقسامات أو صراعات داخلية إلا أنها تظل – حتى الآن – الفكرة السياسية الأكثر تلبية لحاجة الشعب المصري (الذي أغلبه من الشباب) لكيان سياسي جامع متجاوز للأيديولوجيا وللمصالح الفردية والفئوية والطبقية. وهى بذلك تتفوق على سابقتها “حركة شباب من أجل التغيير” التي وإن كانت مثلها ولدت من رحم نضال سياسي جامح إلا أنها حُصِرت في خانة النخبوية وغلبت عليها التوجهات الأيديولوجية ولم تتطور – في رأيي – عن كونها التمثيل الشبابي للحراك النخبوي الذي قادته حركة كفاية، بكل ما فيه من صراعات حزبية ومذهبية.
وأعترف الآن أن أحد أكبر أخطائي في مشواري السياسي هو عدم الانضمام لحركة شباب 6 أبريل بشكل رسمي/تنظيمي والاكتفاء بما يفعله المفكرون النظريون “الُمدللون” غالبا من التحريض بالكتابة والمشاركة على استحياء كضيف في أنشطة الحركة وصديق لقادتها دون محاولة لمساهمة جادة في توجيه مواقفها أو التأثير الفعلي على صناعة القرار داخلها، ولهذا أسباب – شخصية وتنظيمية – يمكن الاستفاضة فيها في مقال آخر.
ولا أخفي قناعتي بأن الشعب المصري، الآن، في حاجة، أكثر من أى وقت مضى، لحركة شبابية ديمقراطية جامعة لا تنتمي إلا للوطن ولا تسعى إلا مصلحة شعبه ورفاهيته، حركة تدرك أن التضحية من أجل الديمقراطية وحكم الشعب لنفسه واجب وطني لا يجوز التنازل عنه، حركة تؤمن بأن “التغيير الآن” لم يكن مجرد شعار يوزع في الشوارع في غفلة من رجال الأمن، بل حاجة أمن قومي ملحة وضرورية يجب أن تعبر عنها إرادة شعبية واضحة يلتف حولها الجميع حتى رجال الأمن.
وأختم مقالي هذا بتوجيه التحية والتقدير للطرف الثالث في معادلة الاستقطاب المقيتة، الطرف الذي يسعى للحق والعدل ولا يحيد عنهما. الطرف الذي يدافع عن الضعيف دون أن يشغله دينه أو جنسه أو جنسيته، الطرف الذي يضحي بوقته وجهده وأمواله في سبيل أن تصبح بلده في مصاف البلاد الحرة المتقدمة وشعبها في مصاف الشعوب الراقية المتماسكة، الطرف الوطني بحق، المؤمن بحق، الإنساني بحق. تحية لأهل السلام.
المصدر: (فكر تاني)