منذ أكثر من أسبوع، صدر تقرير السعادة، وذلك بمناسبة اليوم الدولي للسعادة، الذي يناسب يوم 20مارس من كل عام. وقد احتلت مصر مرتبة متراجعة في هذا التقرير لعام 2024، مقارنة عما قبله.
يقيس تقرير السعادة مستوى الرفاهة والرضاء بين الناس عن أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. من خلال الناتج المحلي الإجمالي والدعم الاجتماعي ومتوسط العمر الصحي والتمتع بالحريات العامة والكرم وأوضاع النزاهة ومدى غياب الفساد في المجتمع. ويحدد المقياس مدى سعادة الناس عبر الأعمار والأجيال المختلفة، وكذلك مدى رضاء كل هؤلاء عن أوضاعهم.
وكان قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 66/281 الصادر في 12يوليو 2012 قد حدد يوم 20مارس من كل عام كيوم للسعادة. حيث أشار القرار أن على الحكومات والمنظمات ان تستثمر في الظروف التي تدعم السعادة بدعم من حقوق الإنسان ودمج الرفاه والأبعاد البيئية في أطر السياسات العامة مثل أهداف التنمية المستدامة الـ17 التي سبق وأن حددتها الأمم المتحدة. ومنذ ذلك اليوم، يصدر تقرير السعادة بشكل سنوي.
يعمل التقرير السنوي للسعادة على رصد وقياس مدى سعادة الناس في أكثر من 140دولة، حيث يتم دراسة أوضاع الناس في الثلاث سنوات السابقة لسنة الإصدار، وذلك بالاعتماد على مؤسسة جالوب ومركز أكسفورد لأبحاث الرفاهة وشبكة حلول التنمية المستدامة.
بالتأكيد أن التقرير ربما يكون محلا لنقد الكثيرين، لأن هؤلاء يروا أنه يحط من شأن دول تعارف الناس على استقرار أوضاعها، ويرفع من قدر دول أخرى مرد كثير من الباحثين على اعتبارها من الدول الفاشلة أو شبة الفاشلة وفق مؤشرات التنمية التقليدية، خاصة وأنه يأخذ في الاعتبار مؤشرات الناتج المحلي الإجمالي وأوضاع النزاهة والفساد.
لكن على أي حال يبدو إن التقرير يعتمد بشكل كبير على الإدراك والحس بالسعادة أكثر من اعتماده على الأرقام والبيانات المرتبطة بالتنمية فقط.
وعودة إلى التقرير، يتبين أنه في مقدمة الدول الأكثر سعادة تقع الدول الإسكندنافية دوما وكذلك بعض دول غرب أوروبا. وفي تقرير 2024 تحديدا كان الترتيب عالميا فنلندا الأولى والدانمرك الثانية وأيسلندا الثالثة والسويد الرابعة وكانت هولندا في المركز السادس والنرويج تحتل المركز السابع ولكسمبورج الثامن وسويسرا التاسع.
ما يهمنا هنا في تقرير 2024 هو ترتيب مصر، حيث جاءت في المرتبة الـ 127 عالميًا من بين 143 دولة شملها تقرير هذا العام، ليتراجع وضعها 6 درجات عن عام 2023، حيث كانت تحتل المرتبة الـ121.
وكان ترتيب مصر عام 2024 قد تلي العديد من الدول الإفريقية، مثل جنوب إفريقيا التي احتلت المرتبة الـ 83 عالميًا، والجزائر التي جاءت في المركز الـ 85، والكونغو في المركز الـ 89، والجابون في المركز 95، وغينيا في المركز 97 ، والسنغال 99، والكاميرون 104، ونامبيا 106، والمغرب 107، والنيجر 109، وزامبيا 112، وتشاد 113، وكينيا 114، وتونس 115، وبنين 116، وأوغندا 119، وغانا 120، وليبريا 121، ومالي 122، وتوجو 124.
على المستوى العربي، لم يأت بعد مصر سوى دولتين فقط هما اليمن التي احتلت المرتبة 133 ولبنان التي احتلت المرتبة 142 وهو المركز قبل الأخير في التصنيف وقبل دولة أفغانستان فقط، بينما جاءت الكويت بمقدمة الدول العربية بالمركز الـ 13 والإمارات في المركز 22، ثم السعودية بالمركز 28، والبحرين بالمركز الـ 62عالميًا.
وعلى مستوى الفئات العمرية، احتلت مصر المرتبة الـ 130 في مؤشر سعادة صغار السن، والمركز الـ 24 لكبار السن، و126 بين الفئة العمرية المتوسطة، وفي تقييم رضا المراهقين عن حياتهم حصلت مصر على 4,48 نقطة فقط من عشرة نقاط.
هكذا يتبين أن وضع وحال مصر ليس مرضيا على الإطلاق لجموع المصريين. فالسعادة في النهاية هي شعور وحس وإدراك معنوي قبل أن يكون أمرا ماديا. بعبارة أخرى، ربما تكون الظروف الحياتية والمعيشية صعبة لكن الناس لديهم الأمل في الأحسن مستقبلا، أو أنهم ربما لا يدركون أن ظروفهم صعبة لعدم إدراكهم وشعورهم المسبق بالراحة.
خذ على سبيل المثال أن التقرير يضع اليمن في مرتبة أفضل بدرجة واحدة عربيا من لبنان، رغم أن كل الشواهد ترى أوضاع لبنان الاقتصادية والاجتماعية والسياسية –على علتها- أفضل من أوضاع اليمن. خذ أيضا وضع الكونغو برازافيل الدولة الفقيرة، والتي جاءت بالمرتبة 89، مع صعودهما بنحو44 و40 مركزًا على الترتيب بين عامي 2013 و2024. كل تلك الأمثلة تؤكد أن السعادة إحساس قبل أن تكون أرقام.
لقد ظل المصريون لعقود –ولا زالوا- في حالة رضاء على أوضاعهم رغم ضيق العيش وقصر ذات اليد، وكانت كلمة “الحمد لله” هي السمة في مصطلحاتهم اللغوية الدائمة. سمة تعبر عن وجع وأنين مكبوت وشكوى غير مسموعة، لكنها لا تغفل أن تشكر الله على نعمه، وتؤمن بقدره بكلمة “الحمد لله”.
من المهم بالنسبة لمصر أيضا أن تقرير السعادة ضمن أهدافه أنه يخاطب قادة الدول لمعرفة مدى رضاء الناس عن أوضاعهم. وبعبارة أخرى، ربما يهدف التقرير بناء على ما سبق ذكره، في تحديد مدى الشرعية السياسية لأنظمة الحكم المختلفة.
هنا تتحتم الإشارة إلى ما قاله جون كليفتون، الرئيس التنفيذي لشركة جالوب أحد الأعمدة الرئيسة لقياس السعادة، حيث يقول “إن تقرير السعادة يعتمد على بيانات موثوقة وتصورات الناس عن الحياة، وهدفنا هو تزويد القادة بالمعلومات الصحيحة حول ما يقوله الناس تجاه ما يجعل الحياة جديرة بالاهتمام”.
بعبارة أخرى، من المفروض أن يخدم التقرير صانع القرار، لأنه يوجهه إلى الإيجابيات والمثالب، ويلفت نظره إلى أهمية سرعة معالجة النواقص، حتى يتمتع النظام بالشرعية ومن ثم البقاء في السلطة.
وطالما أن السعادة ترتبط بإدراك الناس لأوضاعهم، فمن المنطقي أن يكون هناك عدم رضاء الناس على أوضاعهم مصريا. فكيف لهم أن يكونوا سعداء وهم يروا كل يوم أن التضخم خاصة في أسعار السلع والخدمات في ارتفاع ما يجعلهم في حالة قلق وعجز أمام من يعولونهم؟ وكيف لهم السعادة وهم يروا أن الدولة ليست قادرة على مواجهة الاحتكارات والمحتكرين ما يحملهم أعباء كثيرة رغم ما يظهر من قوتها في مناسبات كثيرة؟ وكيف لهم السعادة وهم يرون أن تعليم أبنائهم يكلفهم ما لا يطيقون سنويا، وبالمقابل تكون الدول الأخرى الأكثر سعادة التعليم لديهم بالمجان بشكل كامل؟ وكيف لهم السعادة ومن يخرج عليهم دوما يذكرهم أنهم كانوا شبة دولة أو أن دولتهم كانت مجرد “حاجة” وأنهم أصبحوا اليوم في مرتبة أرقى؟ وكيف لهم السعادة وهم يرون الفساد يمخر في عباب كل ما هو محيط بهم لإنهاء مصالحهم في غياب كامل للأخلاق والقانون؟ وكيف لهم السعادة وهم يرون بلادهم أصبحت تقارن بدولة الخديوى إسماعيل بسبب الدين الخارجي؟ وكيف لهم السعادة وهم يرون برلمانهم ينتخب بطريقة تشبة التعيين أو التزكية بسبب نظام القوائم المطلقة؟ وكيف لهم السعادة في غياب المجالس المحلية القائمة على محاربة الفساد والإرهاب ودعم التنمية؟ وكيف لهم السعادة وهم يرون الفوارق الطبقية الرهيبة بين الناس ومؤشراتها في السكن والتعليم والتوظيف والرواتب وأقسام الشرطة…إلخ؟ وكيف لهم السعادة وهم يرون إعلامهم أصبح للمديح والتطبيل وتغييب الوعي وتكريس قيم الاستهلاك والفوارق بين الناس؟ وكيف لهم السعادة في العدالة المتأخرة، وغياب تنفيذ الأحكام الذي يحتاج بدوره إلى الوساطة والمحسوبية؟.
في تقرير 2025 يأمل الكثيرون أن يكون وضع المصريين في مرتبة أرقى، مرتبة ربما يعزز منها العمل على تحسين أوضاعهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية. لا شك أن دور الدولة بكافة مؤسساتها التنفيذية والتشريعية والقضائية وكذلك المؤسسات غير الرسمية كالإعلام والأحزاب السياسية والمجتمع المدني مهم في رفعة الناس وشعورهم بالسعادة.
بالتأكيد في مجتمع به أكثر من 100 مليون مواطن الأمر ليس سهلا، لكن مع انغاس الناس في أعمال الخير والعلاقات الاجتماعية السوية والأعمال الطوعية لمساعدة الأخرين–حسب ما تفيد أغلب الدراسات الإنسانية- ربما يهدف كل ذلك في الوصول إلى مرتبة أرقى وأفضل للسعادة مستقبلا.